الأربعاء 24 أبريل 2024

تحليل قصيدة أبو القاسم الشابي إذا الشعب يوما أراد الحياة

تم التحديث في: 2022-04-30

الحياة إرادة وجهاد ، لا يثبت في ميدانها إلا القوي والصبور ، كما أن الريح تهب في قوة ولا ترتد عن الوعورة وركوب الأخطار وتسلق القمم ، كذلك يجب على الإنسان أن يكون جريئا ، صامدا في وجه الشدائد ، طموحا إلى العلا ، لأن الأرض نفسها تكره الجبناء المتراخين عن تطلّب القمم ، فما بالك بالذين يرضون بالذل والاستعمار .

تلك هي إرادة الحياة والتي ساقها الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم  الشابي في إحدى أشهر قصائده المنادية بالحرية والثورة والحياة .

 

قصيدة إرادة الحياة

إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة  *  فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ

ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلي  *  ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ

ومــن لــم يعانقْـه شـوْقُ الحيـاة  *  تبخَّـــرَ فــي جوِّهــا واندثــرْ

كـــذلك قــالت لــيَ الكائنــاتُ  *  وحـــدثني روحُهـــا المســـتترْ

ودمــدمتِ الــرِّيحُ بيــن الفِجـاج  *  وفــوق الجبــال وتحـت الشـجرْ

إذا مـــا طمحــتُ إلــى غايــةٍ  *  ركــبتُ المُنــى, ونسِـيت الحـذرْ

ولــم أتخوف وعــورَ الشِّـعاب  *  ولا كُبَّـــةَ اللّهَـــب المســـتعرْ

ومن لا يحب صعود الجبال  *  يعش أبَــدَ الدهــر بيــن الحــفرْ

فعجَّــتْ بقلبــي دمــاءُ الشـباب  *  وضجَّــت بصـدري ريـاحٌ أخَـرْ

وأطـرقتُ أصغـي لعزف الرياح  *  وقصف الرعود ووقع المطر

وقـالت لـي الأرض لما تساءل  * تُ : يا أمي هل تكرهين البشر ؟

أُبــارك فـي النـاس أهـلَ الطمـوح  *  ومــن يســتلذُّ ركــوبَ الخــطرْ

وألْعــنُ مــن لا يماشــي الزمـانَ  *  ويقنـــع بــالعيْشِ عيشِ الحجَــرْ

هــو الكــونُ حـيٌّ يحـبُّ الحيـاة  *  ويحــتقر المَيّت المندثر

فـلا الأفْـق يحـضن ميْـتَ الطيـور  *  ولا النحــلُ يلثــم ميْــتَ الزهـرْ

ولــولا أمُومــةُ قلبِــي الــرّؤوم   *  لفرّت عن الميت تلك الحفر

فــويلٌ لمــن لــم تشُــقه الحيـا  *  ة مِــن لعنــة العــدم المنتصِـرْ

وفــي ليلــة مـن ليـالي الخـريف  *  مثقَّلـــةٍ بالأســـى والضجـــرْ

سـألتُ الدُّجـى : هـل تُعيـد الحيـاةُ  *  لمـــا أذبلتــه  ربيــعَ العمــرْ ؟

فلـــم تتكـــلّم شــفاه الظــلام  *  ولــم تــترنَّمْ عــذارى السَّــحَرْ

وقــال لــيَ الغــابُ فــي رقَّـةٍ  * مُحَبَّبَـــةٍ مثــل خــفْق الوتــرْ

يجــئ الشــتاءُ شــتاء الضبـاب  *  شــتاء الثلــوج شــتاء المطــرْ

فينطفــئُ السِّـحرُ  سـحرُ الغصـونِ  *  وســحرُ الزهــورِ وسـحرُ الثمـرْ

ويفنــى الجــميعُ كحُــلْمٍ بــديعٍ  *  تـــألّق فـــي مهجــةٍ واندثــرْ

وتبقــى البــذورُ, التــي حُـمِّلَتْ  * ذخــيرةَ عُمْــرٍ جــميلٍ, غَــبَرْ

وحالمـــةً بأغـــاني الطيـــورِ  *  وعِطْــرِ الزهــورِ وطَعـمِ الثمـرْ

ورنَّ نشـــيدُ الحيـــاةِ المقـــدّ  *  سُ فــي هيكـلٍ حـالمٍ قـد سُـحِرْ

وأعْلِــنَ فــي الكـون : أنّ الطمـوحَ  *  لهيـــبُ الحيــاةِ ورُوحُ الظفَــرْ

إذا طمحـــتْ للحيـــاةِ النفــوسُ  *  فــلا بــدّ أنْ يســتجيبَ القــدر

 

مصدر قصيدة إرادة الحياة 

 

قصيدة ‘ إرادة الحياة ‘ هي للشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي الذي قضى حياته القصيرة كالشمعة ، تنير لغيرها وتحترق هي بالنار ، وللاطلاع على سيرة حياته فقد خصصنا موضوعا مفصلا وممتعا على الرابط أسفله :

معلومات عن الشاعر أبو القاسم الشابي : طائر تونس الحر الخالد

وقصيدته التي بين أيدينا هي من ديوانه ‘ أغاني الحياة ‘ نظمها في 16 سبتمبر سنة 1933 ، وهي من البحر المتقارب ، وهو بحر يصلح للسرد والتعبير عن العواطف الجياشة ، وهذا ظاهر وجلي في أبيات القصيدة . وقد حاولنا أن نختصر قدر الإمكان بعض أبيات القصيدة لطولها .

 

شرح بعض الكلمات

 

– دمدم : تكلم وهو غاضب .

– الفجاج : الطريق الواسع بين جبلين .

– وعور الشعاب : ما عظم من سواقي الأودية .

– كبة اللهب : معظم النار .

الرؤوم : الأم التي تعطف على ولدها .

 

تحليل و شرح  قصيدة إرادة الحياة

عرفنا في الموضوع الذي تناول حياة الشاعر أبي القاسم الشابي أنه عاش لأجل مبادئ الثورة والحياة الكريمة ، فكان حريصا على نشر الوعي والقيم الوطنية بين أبناء وطنه ، وحثهم على الثورة ضد المستعمر ، وضد الجهل والتخلف ، وقصيدته ‘ إرادة الحياة ‘ ما هي إلا مثال حي وعنوان عريض تتجلى فيه شخصية الشاعر الطموحة الثائرة .

إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة  *  فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ

ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلي  *  ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ

بيتان يفتتح بهما الشاعر قصيدته ، حيث أكسبا قصيدته من الشهرة والصيت ما بقي أبد الدهر ولم يندثر ، حيث تغنى به الثوار منذ الاستعمار في تونس وإلى يومنا هذا .

يربط الشاعر تحرر أي أمة ونجاتها بعزيمتها وإرادتها في التغيير ، هذا التغيير يلزمه إيمان ويقين ودعاء ، وكأن مفهوم القدر هنا ينطبق على قوله تعالى : ‘ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ‘ ( الرعد 11 ) .

بعدها يظهر الشاعر حكيما يخاطب الكائنات ويصغي لهمسات الطبيعة ، التي تدعو إلى الأمل والتفاؤل والسعي إلى استعادة أمجاد الأمة ، فلعب دور الطبيب المشخص للداء وفي الوقت نفسه وصف العلاج والدواء ، وهذا أسلوب عاطفي يلامس القلوب قبل العقول ، مثلما فعل الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدته ابتسم .

كـــذلك قــالت لــيَ الكائنــاتُ  *  وحـــدثني روحُهـــا المســـتترْ

ودمــدمتِ الــرِّيحُ بيــن الفِجـاج  *  وفــوق الجبــال وتحـت الشـجرْ

إذا مـــا طمحــتُ إلــى غايــةٍ  *  ركــبتُ المُنــى, ونسِـيت الحـذرْ

ولــم أتخوف وعــورَ الشِّـعاب  *  ولا كُبَّـــةَ اللّهَـــب المســـتعرْ

ومن لا يحب صعود الجبال  *  يعش أبَــدَ الدهــر بيــن الحــفرْ

 

شتاء يحمل يأسا وربيع يحمل أملا

 

ويبدع الشاعر في تصوير الحياة التي يعيشها شعبه ، فهي كخريف جاف كئيب يعقبه شتاء بارد شديد ، ويقصد به المستعمر .

وفــي ليلــة مـن ليـالي الخـريف  *  مثقَّلـــةٍ بالأســـى والضجـــرْ

سـألتُ الدُّجـى : هـل تُعيـد الحيـاةُ  *  لمـــا أذبلتــه  ربيــعَ العمــرْ ؟

فلـــم تتكـــلّم شــفاه الظــلام  *  ولــم تــترنَّمْ عــذارى السَّــحَرْ

وقــال لــيَ الغــابُ فــي رقَّـةٍ  * مُحَبَّبَـــةٍ مثــل خــفْق الوتــرْ

يجــئ الشــتاءُ, شــتاء الضبـاب  *  شــتاء الثلــوج شــتاء المطــرْ

فينطفــئُ السِّـحرُ  سـحرُ الغصـونِ  *  وســحرُ الزهــورِ وسـحرُ الثمـرْ

لكن من رحم المعاناة والقهر ينبثق شعاع من الأمل الذي يحيى في البذور التي طمرتها سيول الأمطار العارمة ، فينبت جيل جديد من الثوار الذين يحيون أمجاد الأمة ، ويعيدون لها حريتها . وخلال ذلك يحدث صراع داخلي بين أنا الشاعر وذكرياته ، فلطالما حلم بحياة كريمة تقوم على الحرية والعدل والكرامة ، لكن بوجود ظلام المستعمر فقد بدّد جمالية هذه الأحلام وحوّلها إلى كوابيس وآلام شديدة ، زادها مرض الشاعر الذي أحاطه بهالة من التشاؤم .

لذا نراه يكثر من أسلوب الاستفهام ، وكأني به يربط الماضي بحاضر مجهول ومستقبل أكثر منه غموضا وعبر عنه الشاعر بكلمة ظمأ .

ظمِئـتُ إلـى النـور فـوق الغصونِ  *  ظمِئـتُ إلـى الظـلِ تحـت الشـجرْ

ظمِئـتُ إلـى النَّبْـعِ بيـن المـروجِ  *  ظمِئـتُ إلـى الظـلِ تحـت الشـجرْ

ظمِئـتُ إلـى الكـونِ ! أيـن الوجـودُ  *  وأنَّـــى أرى العــالَمَ المنتظــرْ ؟

ثم يقول الشاعر :

هـو الكـونُ خـلف سُـباتِ الجـمودِ  *  وفـــي أُفــقِ اليقظــاتِ الكُــبَرْ

 

إرادة حياة نابعة من أعماق الشاعر

 

لا بد عزيزي القارئ وأنت تقرأ هذه الأبيات الرائعة ، تلامس الشوق الشديد للشاعر وحنينه لأمجاد وطنه وشعبه ، والبيت الذي بين أيدينا يوضح ذلك وبقوة ، فبالرغم من صراع التشاؤم والأمل ، الشك واليقين ، إلا أنه متأكد أن الأصل دائما ينتصر ويعلو ، لأن تاريخ شعبه راسخ وضارب في الأصالة والقدم ، و لن تستطيع يد الاستعمار أن تئده في ليلة عاتمة .

ولأن أي سبات عميق تعقبه يقظة ونهوض ، وأي جمود وركون تعقبه حركة ونشاط ، فإن الشاعر ينتظر اليقظة الكبرى والتي آثر أن يصيغها جمعا ( اليقظات ) ، لأن القضية قضية شعب بأكمله ، والجمع عصا لا تكسر ، والوحدة قوة لا تقهر ، وعليها يخيب كيد المستعمر .

وفي ختام قصيدته يعود ويكرر الحقيقة التي لا تحجبها أي شمس ، وهي أن أساس مجد أي أمة ، وطبيعة تقدمها ، هي إرادة قوية في التحرر والثورة على الظلم والاستعباد ، ويظهر أسلوب التكرار جليا في كلمة ‘ الحياة ‘ والتي تكررت في القصيدة خمس عشرة مرة ، كما تفوقت على كلمة الموت في ديوانه ككل ، وهذا دليل على تشبت الشاعر بالأمل والحياة ، بالرغم من نظرته التشاؤمية التي طالت حياته .

كما لجأ الشاعر في قصيدته إلى أسلوب التضاد لتصوير مدى الإضطراب الذي تعانيه النفس فيما يعتريها من أهوال وخطوب ، وهذا ظاهر في ألفاظه : ( تنمو – تذوي ) ، ( الحياة – الموت ) ، ( أبارك – ألعن ) ، ( فوق – تحت ) .

 

خاتمة

 

رحل أبو القاسم الشابي عن الحياة تاركا وراءه قصيدة تدعو إلى إرادة الحياة ، فمعه كانت الحياة ثمرة عطاء دائم ومتجدد ، وكان الشعور بها مصدر إلهام فجّر لديه مكامن الإبداع التي أثرت الحركة الأدبية المعاصرة في تونس .

قصيدة طبعت في قلوب الثائرين الأحرار ، الناشدين للأمل والعيش الكريم ، النابذين لكل تعسف وقمع واستبداد ، ولعمري أنها قصيدة وصلت الماضي بالحاضر ومنه للمستقبل ، وانتهت بحكمة بليغة وهي أن استجابة القدر رهينة بالشعب الذي يملك إرادة الحياة .

إذا طمحـــتْ للحيـــاةِ النفــوسُ  *  فــلا بــدّ أنْ يســتجيبَ القــدر

مصادر ومراجع :

– ديوان أبي القاسم الشابي ( شرح أحمد حسن بسج ) .

– أبو القاسم الشابي ، عبقرية فريدة وشاعرية متجددة ( دراسة ومختارات د.سحر عبد الله عمران ) .

عن Amjad Bora