نقف بكم اليوم عند تحفة من روائع الشعر العربي الخالد ، أبيات تقطر استعطافا ورقة ، ووجدانا وشوقا ، هذا ما سنعيشه في موضوعنا ‘ شرح قصيدة أراك عصي الدمع للشاعر أبي فراس الحمداني ‘ .
محتويات
قصيدة أراك عصي الدمع
أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ * أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ ؟
بلى أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعة * ولكنَّ مثلي لا يذاعُ لهُ سرُّ !
إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى * وأذللتُ دمعاً منْ خلائقهُ الكبرُ
تَكادُ تُضِيءُ النّارُ بينَ جَوَانِحِي * إذا هيَ أذْكَتْهَا الصّبَابَة ُ والفِكْرُ
معللتي بالوصلِ ، والموتُ دونهُ * إذا مِتّ ظَمْآناً فَلا نَزَل القَطْرُ !
حفظتُ وضيعتِ المودة َ بيننا * و أحسنَ ، منْ بعضِ الوفاءِ لكِ ، العذرُ
و ما هذهِ الأيامُ إلا صحائفٌ * لأحرفها ، من كفِّ كاتبها بشرُ
بنَفسي مِنَ الغَادِينَ في الحَيّ غَادَة ً * هوايَ لها ذنبٌ ، وبهجتها عذرُ
تَرُوغُ إلى الوَاشِينَ فيّ، وإنّ لي * لأذْناً بهَا، عَنْ كُلّ وَاشِيَة ٍ، وَقرُ
بدوتُ ، وأهلي حاضرونَ ، لأنني * أرى أنَّ داراً ، لستِ من أهلها ، قفرُ
وَحَارَبْتُ قَوْمي في هَوَاكِ، وإنّهُمْ * وإيايَ ، لولا حبكِ ، الماءُ والخمرُ
يقولونَ لي : ” بعتَ السلامة َ بالردى ” * فَقُلْتُ : أمَا وَالله، مَا نَالَني خُسْرُ
و هلْ يتجافى عني الموتُ ساعة ً * إذَا مَا تَجَافَى عَنيَ الأسْرُ وَالضّرّ ؟
نكتفي بهذا القدر من الأبيات من القصيدة الرائعة ‘ أراك عصي الدمع ‘ ، ويمكنكم الرجوع إليها كاملة على الانترنت للاطلاع .
نبذة مختصرة عن صاحب القصيدة
هو الشاعر أبو فراس الحمداني ابن عم سيف الدولة أمير حلب . ولد في الموصل سنة 932 م . قتل أبوه وهو ما زال في الثالثة من عمره ، فعاش تحت رعاية ابن عمه سيف الدولة ونشأ في بلاط الحمدانيين في حلب بين نخبة مختارة من رجال العلم والأدب . فكان شاعرا وكاتبا وفارسا .
قاتل الروم مع سيف الدولة ، وأسر في إحدى مواقعه معهم . ثم فك أسره ووقع نزاع بينه وبين أبي المعالي ابن سيف الدولة الذي قضى عليه في إحدى المعارك . وهكذا مات وعمره 37 سنة .
مناسبة قصيدة أراك عصي الدمع
القطعة التي بين أيدينا زخرفت وأخذت من ” روميّات ” أبي فراس ، وهي تلك القصائد الرائعة التي نظمها الشاعر في أسره ببلاد الروم وأرسلها إلى ابن عمه سيف الدولة ( تباطؤه في فدائه ) أو إلى والدته الكئيبة أو إلى أصدقائه ، وهي كيوميات سجّل فيها الشاعر تأثره بالفرقة والأسر والغربة ، وكذا فخره بنفسه واشتياقه لأيام الحرية والرغد والفروسية .
شرح أبيات قصيدة أراك عصي الدمع
أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ * أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ ؟
لقد استهل الشاعر قصيدته بمقدمة غزلية جريا على العادة التقليدية للشعراء الأوائل ، وهذا ليس بغريب على شاعرنا إذا نظرنا إلى مسيرة حياته التي تشرّبت الأصالة والعروبة .
يخاطب الشاعر نفسه متعجبا من مدى صبره وجلده على سلطان الحب ، فهو لا يبكي كعادة أهل الهوى المكتوين بناره ، ودمعه يقف له سندا هو الآخر فيمتنع عن الترقرق ، وهنا يحضرني على النقيض بيت الشاعر العظيم المتنبي :
أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ * وجوى يزيدُ وعبرةٌ تترقرقُ
فهو على عكس أبي فراس ، يعاني من نار الهوى التي حرمت جفونه النوم ، ويعتصر قلبه ألما ، وينهال دمعه سيلا .
بلى أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعة ٌ * ولكنَّ مثلي لا يذاعُ لهُ سرُّ !
يعترف الشاعر بأنه يحتفظ بكل مظاهر حبه واشتياقه في صدره ، وبأنه يتألم لبعده عن الحبيبة ، لكن نفس الشاعر تأبى الخضوع لأمر الهوى ، فهو يملك القدرة على التحمّل وإخفاء مشاعره ، لكن سرعان ما تتدخل عوامل ومؤثرات تضعف نفس الشاعر وتجعل ذاته تستسلم وهو ما نلمسه في البيت التالي :
إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى * وأذللتُ دمعاً منْ خلائقه الكبرُ
إذا حلّ الليل على الشاعر ، جاءت إليه الذكريات وبسط سلطان الهوى جبروته على قلبه ، فيبكي بحرقة ، لكنه لا يظهر بكاءه للناس ، فهو الجلد الصابر الذي تأبى نفسه الضعف والهوان .
بيت يتّقد شوقا
تَكادُ تُضِيءُ النّارُ بينَ جَوَانِحِي * إذا هيَ أذْكَتْهَا الصّبَابَة ُ والفِكْرُ
لقد وصلت شدة الوجد والشوق إلى الديار والمحبوبة بالشاعر إلى درجة أنها نار أحرقت فؤاده وجوانحه ، لكن مكانة الشاعر واعتزازه بنفسه تجعله يتجرع هذه المرارة بصمت ويكتمها في قلبه ، إنه صراع بين الكبرياء والعاطفة ، كبرياء دونه الموت أنفة وصبرا ، وعاطفة تتّقد نارا حارقة .
معللتي بالوصلِ ، والموتُ دونهُ * إذا مِتّ ظَمْآناً فَلا نَزَل القَطْرُ !
يتملك خطاب الأنانية نفسية الشاعر ، فهو ينتظر ويرسم الأماني للقاء محبوبته التي يبدو أنها لا تفي بوعدها ، وبين نار شوق اللقاء و مخافة إدراك الموت للشاعر وحرمانه من وصل المحبوبة ، يدعو على كل أهل الهوى والعشق بنفس المصير .
بدوتُ ، وأهلي حاضرونَ ، لأنني * أرى أنَّ داراً ، لستِ من أهلها ، قفرُ
يقدم لنا الشاعر في هذا البيت صورة رائعة تنطق بالجمال ، فافتقاده للحبيبة جعله وحيدا رغم أنه يعيش وسط أهله ، وكأني ـ شخصيا ـ أتخيل الشاعر نازلا إلى الصحراء متخليا عن أهله الحضر ، فالدار التي لا تحوي حبيبته هي قفر خراب ، ورمس يعلوه سراب ، نفسية منهارة وملل قاتل ترياقه وجود الحبيبة .
أبيات تشعّ حكمة
هُوَ المَوْتُ، فاختَرْ ما عَلا لك ذِكْرُه * فلمْ يمتِ الإنسانُ ما حييَ الذكرُ
وما هذه الأيامُ إلا صحائفٌ * لأَحْرُفِهَا من كَفِّ كاتبها بِشْرُ
و لا خيرَ في دفعِ الردى بمذلة ٍ * كما ردها ، يوماً بسوءتهِ ” عمرو”
وَإنْ مُتّ فالإنْسَانُ لا بُدّ مَيّتٌ * وَإنْ طَالَتِ الأيّامُ، وَانْفَسَحَ العمرُ
تَهُونُ عَلَيْنَا في المَعَالي نُفُوسُنَا * و منْ خطبَ الحسناءَ لمْ يغلها المهرُ
أبيات رائعة جرت مجرى الحكم ، فصار بعضها مثلا سائرا بين الناس ، ولا عجب في ذلك ، فنفسية الشاعر الجياشة بالعاطفة والأحاسيس الرقيقة جعلت الحكم تنساب على لسانه وتجري في كيانه .
الأساليب البلاغية في قصيدة أراك عصي الدمع
تزخر قصيدة ‘ أراك عصي ّّ الدمع ‘ بمجموعة من الأساليب اللغوية والفنية البيانية أذكتها نار العاطفة المتأججة ، وسندرج بعضا منها بما تيسّر وتقدّر على سبيل الإيجاز .
لقد نظم الشاعر قصيدته على ‘ بحر الطويل ‘ ، وتفعيلته :
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
وبالرجوع إلى القصيدة نجد ما يلي :
المستوى الدلالي
اعتمد الشاعر على الاستعارة المكنية في البيت الأول ( أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ ..) فلقد صوّر الدمع بالعصيّ والصلب ، وشبّه الهوى بالإنسان الذي يأمر وينهى .
وفي البيت الثالث ( إذا الليل أضواني ) هذه استعارة مكنية صوّر فيها الليل بالوهن والمرض الذي يضعف الشاعر .
(بسطت يد الهوى) هنا صوّر الهوى بشخص له يد تُبسط .
( أذللت دمعاً من خلائقه الكبر ) استعارة مكنية صور فيها الدمع بشخص متعال من طبائعه الكبر .
فى البيت الرابع : ( تكاد تضيء النار بين جوانحي ) استعارة تصريحية حيث شبه عواطفه وانفعالاته الداخلية بالنار التي من الممكن أن تضيء وتشتعل .
( إذا هي أذكتها الصبابة والفكر ) : استعارة مكنية ، هنا شبه شدة الشوق والعشق بالمادة التى من شأنها أن تشعل النيران .
سَيَذْكُرُني قَوْمي إذا جَدّ جدّهُمْ * وفي الليلة ِ الظلماءِ يفتقدُ البدرُ
أكثر بيت بلاغي شد انتباهي وإعجابي ، حيث شبه الشاعر نفسه بالبدر و يقول أن الناس لا بد أن تتذكره في المواقف الصعبة ، فهو فارس الحالات المستعصية .
المستوى التركيبي
فنجد أسلوب الاستفهام ينوب ترجمة عن البيت الأول ، ففي قوله ‘ أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ ؟ ‘ يتساءل الشاعر متعجبا عن ماهية الهوى الذي يؤثر في القلوب .
وعلى مستوى البديع والصوت يتجلى لنا أسلوب التصريع ( اتفاق شطري البيت الواحد ) وفي المثال نجد كلمتي : الصبر ، أمر .
كذلك نجد أسلوب الطباق ( كلمتان متضادتان في المعنى ) في :
البيت الأول : ( نهي وأمر ) .
البيت الثاني : ( يذاع وسرّ ) .
البيت الخامس : ( ظمآنا والقطر ) .
ظاهرة تكرار الترادف ( اختلاف كلمتان في اللفظ واتفاقهما في المعنى ) : وأزيد عليها أن هذا التكرار يكون بالمدلول دون الدال ، ولكي نقرّب الصورة لنتأمل البيت الأول :
أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ * أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ ؟
نجد ورود كلمتي ( عصيّ الدمع وشيمتك الصبر ) وهما يدلان على معنى واحد وهو الجلد والقدرة على التحمل والصبر .
وفي البيت الثالث :
إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى * وأذللتُ دمعاً منْ خلائقه الكبرُ
نجد كلمتي ( أضواني وأذللت ) وهي بمعنى الضعف والانهزام .
خاتمة
لقد انبثق الشعر على لسان أبي فراس وتدفّقت العاطفة منه سيلا إلى حدّ قلّما بلغت إليه عاطفة في الشعر العربي المتداول ، ومن هذه العاطفة استمد الشاعر معانيه ، فهو الأمير الرقيق والملهم الذي ينبع الحبّ من فؤاده ، وقد يضعف أحيانا فيرسم لنا ديباجة مزينة بفسيفساء عبارات التشكي والحنين والجزوع . هذه العاطفة الرقيقة بوّأت الشاعر منزلة حسنة في عالم الفن ، وقرّبته أبدا إلى القلوب ، فالعاطفة العميقة الصادقة تستوطن القلوب وتغدو قيمة تبقى خالدة على مر السنين .
مصادر ومراجع :
– شاعرية أبي فراس ( نعمان ماهر الكنعاني ) .
– فخر أبي فراس وأبي الطيب ( عبد الغني باجقني ) .
اريد حل هذا السؤال ( كيف تنعكس صورة المحبوبه من خلال القصيده ؟وضح
رائعه