يعتبر الرثاء فنا من فنون الشعر الغنائي يعبر فيه الشاعر عن آلامه وأحزانه لفقدان القريب والحبيب ، ولقد عُرف هذا الفن في الشعر العربي منذ بزوغه في العصر الجاهلي ، وفي هذا الموضوع سنترككم مع روائع من أجمل قصائد الرثاء في الشعر العربي .
المهلهل يرثي أخاه كليبا
أَهَاجَ قَذَاءَ عَيْنِي الإِذِّكَارُ * هُدُوّاً فَالدُّمُوعُ لَهَا انْحِدَارُ
وَصَارَ اللَّيْلُ مُشْتَمِلاً عَلَيْنَا * كأنَّ الليلَ ليسَ لهُ نهارُ
وَبِتُّ أُرَاقِبُ الْجَوْزَاءَ حَتَّى * تقاربَ منْ أوائلها انحدارُ
أُصَرِّفُ مُقْلَتِي فِي إِثْرِ قَوْمٍ * تَبَايَنَتِ الْبِلاَدُ بِهِمْ فَغَارُوا
وَ أبكي وَ النجومُ مطلعاتٌ * كأنْ لمْ تحوها عني البحارُ
عَلَى مَنْ لَوْ نُعيت وَكَانَ حَيّاً * لَقَادَ الخَيْلَ يَحْجُبُهَا الغُبَارُ
دَعَوْتُكَ يَا كُلَيْبُ فَلَمْ تُجِبْنِي * وَ كيفَ يجيبني البلدُ القفارُ
أجبني يا كليبُ خلاكَ ذمٌّ * ضنيناتُ النفوسِ لها مزارُ
أجبني يا كليبُ خلاكَ ذمُّ * لقدْ فجعتْ بفارسها نزارُ
سقاكَ الغيثُ إنكَ كنت غيثاً * وَيُسْراً حِينَ يُلْتَمَسُ الْيَسَارُ
أَبَتْ عَيْنَايَ بَعْدَكَ أَنْ تَكُفَّا * كَأَنَّ غَضَا الْقَتَادِ لَهَا شِفَارُ
الخنساء ترثي أخاها صخر
يُؤرّقُني التّذَكّرُ حينَ أُمْسي * فأُصْبحُ قد بُليتُ بفرْطِ نُكْسِ
على صَخْرٍ، وأيُّ فتًى كصَخْرٍ * ليَوْمِ كَريهَة ٍ وطِعانِ حِلْسِ
وللخصمِ الالدِّ اذا تعدَّى * ليأخُذَ حَقّ مَظْلُومٍ بقِنسِ
فلمْ ارَ مثلهُ رزءًا لجنٍ * ولم أرَ مِثْلَهُ رُزْءاً لإنْسِ
يُذَكّرُني طُلُوعُ الشمسِ صَخراً * وأذكرُهُ لكلّ غُروبِ شَمْسِ
ولَوْلا كَثرَة ُ الباكينَ حَوْلي * على اخوانهمْ لقتلتُ نفسي
فلا واللهِ لا انساكَ حتَّى * افارقَ مهجتي ويشقَّ رمسي
وقالت أيضا :
قذى بعينكِ أمْ بالعينِ عوَّارُ * امْ ذرَّفتْ أذْخلتْ منْ أهلهَا الدَّارُ
كأنّ عيني لذكراهُ إذا خَطَرَتْ * فيضٌ يسيلُ علَى الخدَّينِ مدرارُ
تبكي لصخرٍ هي العبرَى وَقدْ ولهتْ * وَدونهُ منْ جديدِ التُّربِ أستارُ
تبكي خناسٌ فما تنفكُّ مَا عمرتْ * لها علَيْهِ رَنينٌ وهيَ مِفْتارُ
تبكي خناسٌ علَى صخرٍ وحقَّ لهَا * اذْ رابهَا الدَّهرُ انَّ الدَّهرَ ضرَّارُ
لاَ بدَّ منْ ميتة ٍ في صرفهَا عبرٌ * وَالدَّهرُ في صرفهِ حولٌ وَاطوارُ
وإنّ صَخراً لَوالِينا وسيّدُنا * وإنّ صَخْراً إذا نَشْتو لَنَحّارُ
وإنّ صَخْراً لمِقْدامٌ إذا رَكِبوا * وإنّ صَخْراً إذا جاعوا لَعَقّارُ
وإنّ صَخراً لَتَأتَمّ الهُداة ُ بِهِ * كَأنّهُ عَلَمٌ في رأسِهِ نارُ
حسان بن ثابت يرثي خير الخلق
بطيبة َ رسمٌ للرسولِ ومعهدُ * منيرٌ، وقد تعفو الرسومُ وتهمدُ
ولا تنمحي الآياتُ من دارِ حرمة * بها مِنْبَرُ الهادي الذي كانَ يَصْعَدُ
ووَاضِحُ آياتٍ وَبَاقي مَعَالِمٍ * وربعٌ لهُ فيهِ مصلى ً ومسجدُ
معالمُ لم تطمسْ على العهدِ آيها * أتَاهَا البِلَى ، فالآيُ منها تَجَدَّدُ
عرفتُ بها رسمَ الرسولِ وعهدهُ * وَقَبْرَاً بِهِ وَارَاهُ في التُّرْبِ مُلْحِدُ
ظللتُ بها أبكي الرسولَ فأسعدتْ * عُيون وَمِثْلاها مِنَ الجَفْنِ تُسعدُ
تذكرُ آلاءَ الرسولِ وما أرى * لهَا مُحصِياً نَفْسي فنَفسي تبلَّدُ
مفجعة ٌ قدْ شفها فقدُ أحمد * فظلتْ لآلاء الرسولِ تعددُ
فَبُورِكتَ يا قبرَ الرّسولِ وبورِكتْ * بِلاَدٌ ثَوَى فيهَا الرّشِيدُ المُسَدَّدُ
جرير يرثي زوجته
لَولا الحَياءُ لَعادَني اِستِعبارُ * وَلَزُرتُ قَبرَكِ وَالحَبيبُ يُزارُ
وَلَقَد نَظَرتُ وَما تَمَتُّعُ نَظرَةٍ * في اللَحدِ حَيثُ تَمَكَّنَ المِحفارُ
فَجَزاكِ رَبُّكِ في عَشيرِكِ نَظرَةً * وَسَقى صَداكِ مُجَلجِلٌ مِدرارُ
وَلَّهتِ قَلبي إِذ عَلَتني كَبرَةٌ * وَذَوُو التَمائِمِ مِن بَنيكِ صِغارُ
أَرعى النُجومَ وَقَد مَضَت غَورِيَّةً * عُصَبُ النُجومِ كَأَنَّهُنَّ صِوارُ
عَمِرَت مُكَرَّمَةَ المَساكِ وَفارَقَت * ما مَسَّها صَلَفٌ وَلا إِقتارُ
فَسَقى صَدى جَدَثٍ بِبُرقَةِ ضاحِكٍ * هَزِمٌ أَجَشُّ وَديمَةٌ مِدرارُ
أبو حفصة يرثي حكيم العرب معن بن زائدة
مَضَى لِسَبِيلِهِ مَعْنٌ وأبْقَى * مَكارِمَ لَنْ تَبِيدَ ولَنْ تُنَالاَ
كأنَّ الشَّمْسَ يَوْمَ أُصِيبَ مَعْنٌ * من الإظلام ملبسة ٌ جلالاَ
هُو الجَبَلُ الذي كَانَتْ نِزَارٌ * تهد منَ العدو به الجبالاَ
وعطلتِ الثغور لفقد وأرثتها * مصيبتهُ المجللة ُ اختلالا
أصاب الموت يومَ اصابَ معنا * مِنَ الأحْياءِ أكْرَمَهُمْ فَعَالاَ
وكانَ الناسُ كلهم لمعنٍ * إلى أن زار حفرتهُ عيالا
ولم يكُ طالٌ للعرف ينوي * إلَى غَيرِ ابنِ زَائِدَة َ ارْتِحَالاَ
مَضَى مَنْ كَانَ يَحْملُ كُلَّ ثِقْلٍ * ويسبق فضل نائله السؤلا
للمزيد من روائع الأشعار في فن الرثاء ، أقترح عليكم الكتاب الرائع ( الرثاء في الشعر العربي ) ، حيث ضم باقة متنوعة من أجمل ما قاله الشعراء في الرثاء من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث .