نستقبل اليوم في رحاب موقعنا شاعرا مرهف الأحاسيس ، مقبل على الحياة ، متمرد عليها ، يبكي بحرقة ويفخر باعتداد ، إنه الشاعر ابن الرومي .
من هو ابن الرومي ؟
هو أبو الحسن علي بن العباس بن جورجيوس المعروف بابن الرومي ، رومي من ناحية أبيه ، فارسي من ناحية أمه ، ولد ببغداد سنة 835 ، ونشأ مولعا بتحصيل العلم ومذاكرته ، الشيء الذي مكنه من اكتساب ثقافة واسعة النطاق .
عاش ابن الرومي حياة يطبعها البؤس والشقاء ، فكان فقره وسوء حظه مدعاة إلى تطيره الدائم ، وتكوّن نظرة سوداوية على الحياة ، وبالمقابل استيقاظ شهوة متأججة عنوانها حب التملك والسيطرة والأطماع الدنيوية .
نُكب ابن الرومي في أسرته ، فمات والده وهو بعد حديث السن ، ولحقه أخوه الأكبر ، والذي كان دائم العون له ، ثم توفي أبناؤه الثلاثة ، وتوفيت زوجته ، عوامل لا شك لم تزد شاعرنا إلا جزعا وتشاؤما .
ابن الرومي وعلاقته بذوي الجاه والسلطان
لم يكن ابن الرومي ذلك الشاعر الذي يجيد كسب عطف ممدوحيه من الخلفاء والوجهاء ، إذ كانت طبيعته العصبية الساخطة وغرابة أطواره ، حاجزا يحول بينه وبين التقرب إليهم ، فكانت علاقته بهم جافة .
وإن كان قد اتصل ببعض رجالات الدولة في عهد خلافة المعتضد ، إلا أنه لم ينل منهم ما يملأ رغبته في العيش الرغيد المبني على الإسراف والبذخ ، فكان دائم التشكي والسخط .
وقد سخر به الناس لغرابة أطواره ، وعبثوا به وآلموه ، فسلط لسانه اللاذع عليهم ، وهكذا ظل طوال حياته ، باحثا عن اللذات ، هاجيا كل من تعرض إليه .
وفاة الشاعر ابن الرومي
عاش ابن الرومي حياته متألما ساخطا ، منغمسا في اللذات ، فشحب وجهه وتجعد ، وتقوس ظهره ، وضعف سمعه وبصره ، وكانت خاتمة تلك المأساة أن مات بالسم سنة 896 ، ويقال أن قاتله هو وزير المعتضد ، أو والد ذلك الوزير ، خوفا من لسان الشاعر .
مؤلفات ابن الرومي
– ديوان ضخم في الشعر ، وهو متعدد الأغراض والفنون ، ينطوي على عموم أبواب الشعر العربي المعروفة من مدح وهجاء ورثاء وغزل ووصف .
– رسائل نثرية متفرقة .
شعر ابن الرومي
كان ابن الرومي مرهف الإحساس ، شديد العصبية ، وكان شعره مرآة لشخصيته المتقلبة والمتأثرة بتقلبات الحياة والبشر من حوله ، فخلّف آثارا متفرقة في أغراض شعره .
1 – المدح عند ابن الرومي
لقد كان غرض المدح عند الشاعر ابن الرومي اضطرارا وسبيلا للتكسب ، فتلك كانت الوسيلة المعروفة لشعراء عصره للكسب ونيل الجوائز ، لكن نفس الشاعر المحطمة والمتقلبة ، كانت تحول دون أن ينال تلك الحظوة .
لذا تجد شعر ابن الرومي في هذا الغرض خليطا من الشكوى والتظلم ، محاولا إقناع ممدوحه بجميع الوسائل لإرغامه على العطاء .
إذا ما مدحتُ المرء يوما ولم يثب * مديحي وحق الشعر في الحكم واجب
كفاني هجائيه قيامي بمدحه * خطيبا وقول الناس لي : أنت كاذب
2 – الهجاء عند ابن الرومي
لسان حاد مسلط كسيف قاطع على رقاب كل من طالتهم نقمة الشاعر ، فقد كان يطمح لحياة زاهية وعيش رغيد يليق بمكانته السامية في نظره ، إلا أنه لم يظفر بشيء من ذلك ، فعانى من الحرمان ، فسخط وهجا .
ثم إنه كان متطيرا ، كثير الاعتقاد بالشؤم في الأشخاص والأشياء ، يهجو كل ما يرى فيه نحسا ، وقد بالغ ابن الرومي في هجائه حتى تفوق على أبرز شعراء هذا النوع من الشعر ، وهذا دليل على اضطراب واختلال في نفسيته ، كما يؤكد النقاد والأدباء .
قال في رجل أحدب :
قصُرت أخادعه وغار قذاله * فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرة * وأحس ثانية لها فتجمعا
وقال يهجو رجلا بخيلا اسمه عيسى :
يقتّر عيسى على نفسه * وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره * تنفس من منخر واحد
3 – الرثاء عند ابن الرومي
لقد برز ابن الرومي في هذا الغرض بقوة على الرغم من قلة ما جاد به ، وينقسم رثاؤه إلى قسمان :
رثاء الأهل
برع في ترجمة ما تعانيه نفسه من مرارة الرحيل ، وألم فقدان الأحباء ، وهو في ذلك إنسان متفطر القلب ، يجعل القارئ يتأثر لعباراته الصادقة .
قال يرثي ابنه محمدا :
بكاؤكُما يشفي وإن كان لا يجدي * فجودا فقد أودى نظيركمُا عندي
بُنَيَّ الذي أهدتهُ كفَّاي للثَّرَى * فيا عزَّة َ المهدى ويا حسرة المهدي
توخَّى حمَامُ الموت أوسطَ صبيتي * فلله كيف أختار واسطة َ العقدِ
رثاء أشخاص مختلفين
تختلف درجة الرثاء وقوته عند ابن الرومي باختلاف المرثيين ، فهو الباكي المتألم على المصاب الجلل إن كان صديقا مقربا ، وهو يبكي حبه الضائع في رثائه لجارية أحبها ، وهو الذي يرثي من قتلوا من ممدوحيه وأصحابه ، ويتوعد ويهدد قاتليهم .
قال يرثي بستان المغنية :
بستان يا حسرتا على زهر * فيك من اللهو بل على ثمر
بستان لهفي على حسن وجهك والإحس * ان صارا معا إلى العفر
4 – الغزل عند ابن الرومي
الغزل عند ابن الرومي تغلب عليه لغة الشهوة والجسد ، وهو في غزله ينهج نهج الأقدمين في استعاراتهم وتشبيهاتهم المعهودة ، وبالرغم من مجونه الكبير في شعره ، إلا أنه لم يخل من شعر وجداني رقيق يترجم نفسية الشاعر المضطربة .
قال ابن الرومي :
يا خَلِيلَيَّ تَيَّمَتْني وَحيدُ * ففؤادي بها معنَّى عميدُ
غادة ٌ زانها من الغصن قدٌّ * ومن الظَّبي مُقلتان وجِيدُ
أوقد الحسْنُ نارَه من وحيدٍ * فوق خدٍّ ما شَانَهُ تخْدِيدُ
فَهْيَ برْدٌ بخدِّها وسلامٌ * وهي للعاشقين جُهْدٌ جهيدُ
5 – الوصف عند ابن الرومي
برع ابن الرومي في غرض الوصف بشكل كبير جدا ، وهذا غالب جدا في ديوانه ، وسبب ذلك عاطفة الشاعر المتأججة والمحملة بحب الحياة والجمال ، وما يملكه من خيال كبير يصف أدق التفاصيل ويبرع فيها .
اتصل الشاعر بالطبيعة وذاب في مكنوناتها ، إذ يعتبرها حياة مرتبطة بحياة الإنسان ، كم يلجأ إليها عند كل هم وحزن يلحق فؤاده .
وأظلمت الدنيا وباخ ضياؤها * نهارا وشمس الصحو حيرى على القمم
وأبدى اكتئابا كل شيء علمته * وأضعاف ما أبداه من ذاك ما كتم
وقال أيضا :
بلد صحبت به الشبيبة والصبا * ولبستُ ثوب العمر وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته * وعليه أغصان الشباب تميد
ختاما
الأحاسيس المرهفة المتقلبة التي لا تخلو من اضطراب وتناقض ، عنوان يلخص فلسفة ابن الرومي في الحياة ، فهو الداعي للتمتع بملذات الحياة والشهوات المادية .
وهو يرى في الشعر عنوانا وبوقا للحقيقة الصارخة ، أما فلسفته الدينية فكانت أيضا تتبع العاطفة التي بدورها تخضع لفلسفة الحياة ، هذا الشذوذ الذي طال شخصيته وشعره ، مرده لطبيعة شخصيته وأصله اليوناني ، وما قاساه في حياته من بؤس وشقاء .
هذه العبقرية مكنته من أن يضع بصمته في صفحات ديوان الشعر العربي ، وتبقى أشعاره خالدة ، ومرجعا لأهل اللغة والأدب ، والتذوق الجمالي لمعاني الألفاظ والتعابير الوجدانية الرقيقة .
مصادر ومراجع :
– تاريخ الأدب العربي ( حنا الفاخوري ) .