من بين أعماق الشعر العربي الأصيل ، والشعر التجديدي الحديث ، انبرى في ساحة الشعر العربي شاعر يحمل قلبا مجددا أصيلا ، فكان بحق رائد المدرسة الكلاسيكية الجديدة في الشعر العربي بامتياز ، إنه شاعر القطرين ، مطران خليل مطران .
محتويات
من هو خليل مطران
الشاعر الكبير مطران خليل مطران يعتبر أحد أفراد الثالوث العملاق في عالم الشعر الحديث ، إلى جانب الشاعرين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم .
ولد سنة 1872 في بعلبك بلبنان لأب مسيحي كاثوليكي ، وأم فلسطينية ، هاجر أبوها إلى لبنان فرارا من اضطهاد الحاكم العثماني له في بلده ، ولها أثر كبير في توجيهه نحو الأدب والشعر حيث كانت والدتها شاعرة ، فورث عنها هذه الصفة .
تلقى مبادئ الكتابة وأصول الحساب في مدرسة ابتدائية بزحلة ، ثم واصل تعلمه بالمدرسة البطريريكية للروم الكاثوليك ببيروت ، ومكث فيها حتى السابعة عشرة من عمره ، حيث نهل فيها اللغة العربية على يد أديب عصره ابراهيم اليازجي ، فاكتسب بذلك ثقافة عربية ممتازة .
وفي هذه المدرسة أيضا استطاع أن ينهل من اللغة الفرنسية ، ويكتسب فنونها وأساليبها ، فجمع بين الثقافتين ( العربية والفرنسية ) ، الشيء الذي نمّى من مواهبه ، واستلفت الأنظار إليه ، وخاصة عندما بدأ ينظم الأشعار ضد العثمانيين المتسلطين على حكم بلاده ، مما جعله يحرز شهرة رجل ثورة يعمل على مقاومة الظلم والاستبداد .
رحلة كفاح
بعد أن تخرج خليل مطران من المدرسة البطريركية ، بدأ ينظم شعرا ضد الاستبداد العثماني ، وكثيرا ما عرض حياته لخطر الموت جراء ذلك . الشيء الذي جعل أهله يرسلونه إلى باريس ، وهناك عكف على دراسة الآداب الفرنسية ، وأتيح له الاتصال بفريق من رجال الحركة الوطنية التركية من أعضاء حزب ” تركيا الفتاة ” .
كما تعلم بباريس اللغة الإسبانية ، حيث كان يفكر بالسفر إلى الشيلي ، لكن الأقدار كانت تسوقه إلى مصر ، وهي آخر مستقر لخليل مطران ، وبداية لانطلاقته القوية ، فمصر يومئذ كانت ملتقى لطلاب الحرية من العرب .
خليل مطران رجل الصحافة والمسرح
تزامن قدوم خليل مطران إلى مصر مع وفاة أحد أساتذة المدرسة البطريركية الذي كان يعزه الشاعر ، وهو نفسه مؤسس جريدة الأهرام المصرية ، فحزن عليه حزنا شديدا ، وأثناء مواراة جثمانه التراب ، انطلق الشاعر بصوته الشجي يرثي الفقيد بعبارات بليغة ، أدهشت المشيعين .
وعليه فقد عرض أخ الفقيد على خليل مطران أن يكون محررا في جريدة الأهرام ، وما هو إلا زمن قصير حتى أصبح خليل مطران رجل الصحافة بامتياز ، لما أبان عليه من خبرة في التحرير والكتابة ، وبلاغة في الأسلوب والتعبير ، وصدق في عرض وتحليل الأحداث .
لكن مطران ترك الأهرام بعد تجربة دامت ثماني سنوات ، وقرر أن يؤسس جريدة خاصة به ، حيث أصدر المجلة المصرية سنة 1900 ، وهي مجلة نصف شهرية ، ثم أصدر مجلة الجوائب ( يومية ) .
ونظرا لما كان له من اطلاع واسع على شؤون المسرح ، عهد إليه بإدارة الفرقة القومية منذ سنة 1938 ، وأدى في سبيل ذلك خدمات كبيرة ، منها عكوفه على ترجمة كثير من الروائع الإنسانية الخالدة ، كمسرحيات ( عطيل – هاملت – ماكبت – تاجر البندقية ) لشكسبير .
مرحلة صدمة ويأس
اشتهر خليل مطران بخبرته في المجال الاقتصادي والزراعي ، الشيء الذي أهله للتكليف بوضع البرنامج الأساسي لبنك مصر ، كما كان يؤخذ برأيه في بعض ما له علاقة بالشؤون المالية من المذكرات القانونية ، وفي سنة 1912 ضارب بثروته فخسرها ، فكانت الصدمة عنيفة عليه مما جعله يفكر في الانتحار .
وكان تأثير ذلك جلي وواضح في نفسيته وفي أدبه ، سيما وأن مرضه المزمن زاد من سوء وضعه ، وأظلم الدنيا في عينيه ، ولنا في قصيدتي ‘ المساء ‘ و ‘ الأسد الباكي ‘ ، خير مثال للخواطر التي باح بها الشاعر في تلك الفترة .
وفاة خليل مطران
في ظل الأزمة الخانقة التي حلت بالشاعر اليائس ، جاء الفرج ببشرى تعيينه سكرتيرا معاونا بالجمعية الزراعية الملكية ، فانتظمت شؤونه المادية واستقامت ، فانكب ينسج روائع من قصائد ملحمية لفتت إليه الأنظار ، وسجلت له الإعجاب .
أقيم له سنة 1947 مهرجان أدبي كبير بدار الأوبرا تكريما له واعترافا له بفضله في ميدان الشعر ونصرة القضايا العربية عامة ، وبعد مرور سنتين ، اشتدت عليه وطأة المرض ( النقرس ) ، ففاضت روحه في اليوم الأول من يوليو سنة 1949 ، عن عمر يناهز سبعة وسبعين عاما .
وكان آخر ما قاله لطبيبه : ‘ أنا أعتبر نفسي الآن قد انتهيت ، وإن كنت لا أزال أعيش ، فبقوة الإرادة ، وكل ساعة أحياها تعتبر ليست من حقي ، إنها سرقة موصوفة ! أيها الطبيب ، أريد أن أخلص ، فقد انتهيت ‘ .
مؤلفات خليل مطران
– بشارة تقلا باشا : أقوال الجرائد – مختارات من أقواله .
– مراثي الشعراء ، في رثاء محمود باشا سامي البارودي .
– التاريخ العام ، 6 أجزاء .
– مرآة الأيام في ملخص التاريخ العام ، جزءان .
– ديوان الخليل ، في أربعة أجزاء .
– الفلاح ، حالته الاقتصادية والاجتماعية .
– الموجز في علم الاقتصاد ، في خمسة أجزاء – ترجمه بالاشتراك مع حافظ ابراهيم .
– ترجمة عدة مسرحيات لشكسبير وغيره أشهرها : عطيل – هاملت – ماكبت – تاجر البندقية .
شعر مطران خليل مطران
كان خليل مطران إنسانا تطبعه الأخلاق الحسنة ، والتعامل الإنساني الراقي ، فانعكس ذلك على شعره الذي اتصف بالتعمق والتدقيق في التفاصيل ، زد على ذلك انفتاحه الكبير على مختلف الثقافات ، فاكتسب شعره بذلك طابعا حداثيا متصلة خيوطه بعبق الماضي ، فكان رائد مدرسة الكلاسيكية الجديدة في الشعر العربي .
فقد كان على غرار جيل الشعراء المجددين الذين أحدثوا ثورة في الشعر العربي ، مع الأخذ بالحسبان أن خليل مطران كانت ثورته عقلانية في مجملها ، عميقة الدراسة في محكمها ، فهو يؤمن حقا بأن لكل عصر أدبه الخاص ، ويقول في ذلك : ‘ للعرب الأقدمين عصرهم ولنا عصرنا ، ولهم آدابهم وأخلاقهم وحاجاتهم وعلومهم ، ولنا آدابنا وأخلاقنا وحاجاتنا وعلومنا ‘ .
يمكننا أن نعتبر خليل مطران شاعرا مجددا وسطيا ، فنظرته التجديدية للقصيدة العربية كانت تقضي بالخروج على نمط عمود الشعر القديم ، لكن في نفس الوقت لم ينجرف لذلك التيار التجديدي المفرط الذي نادى به شعراء المهجر ، وعلى رأسهم شاعر الثورة جبران خليل جبران ، وشاعر الأمل إيليا أبو ماضي .
يقول في ذلك المؤرخ الأديب حنا الفاخوري : ‘ أراد الخليل أن يكون ابن عصره وأن يكون في صياغته أصيل العروبة ، يخرج عن عمود الشعر الذي انقاد له أحمد شوقي وحافظ ابراهيم ، ويبتعد عن التحرر المفرط الذي نادى به شعراء المهجر ، فيسلك طريقا جديدة فيها متانة العبارة ، وسلامة الأسلوب ، وروعة الأداء والصياغة ، وفيها الروح الجديدة ، والحياة الجديدة ، والحضارة الجديدة ‘ .
خليل مطران شاعر الوجدان والألم
يكفي أن تطلع على شعر خليل مطران ، وستجده يفوح بعبق من الهدوء والسكينة التي تغشاها عاطفة جياشة ، وأحاسيس خافقة ، فهو الشاعر الثائر على الظلم والاستبداد ، المدافع عن حق قضية وطنه وشعبه وأهله ، وهو المريض المتألم ، الذي عانى من قسوة مرض الجسد ، وصدمات متلاحقة حلت بماله وأصدقائه وحياته ككل ، مما تمخض عن هذا الألم ، شعر نابض يخفق عاطفة واختلاجات مفجعة .
متفرد بصبابتي ، متفرد * بكآبتي متفرد بعنائي
ثاو على صخر أصم ، وليت لي * قلبا كهذي الصخرة الصماء
ينتابها موج كموج مكارهي * ويفتّها كالسقم في أعضائي
خليل مطران شاعر القصص الملحمية
يعتبر خليل مطران أول شاعر يعنى بالشعر الملحمي القصصي ، بشكل لم يسبقه إليه أحد ، فإن كان الشعر الملحمي مقيدا بأغراض محددة كالغزل والمدح في ما مضى ، ولم يتجاوزها إلى الأسلوب القصصي ، وهو الشيء الذي اهتم به شاعر القطرين ، حيث عنى بالملحمات الشعرية البطولية ، ذات الأغراض الوطنية القومية .
/الملحمة : شعر قصصي طويل ، يدور حول البطولات والمعارك ، بأسلوب شعبي حافل بالخوارق التي تثير الإعجاب ؛ والشاعر فيها قصاص يروي الأحداث ويوجهها ، من دون مشاركة شخصية منه .
ففاجأهم هابط كالقضاء * في شكل غض الصبي الأمرد
يدل سناه وسماؤه * على شرف الجاه والمحتد
تبين هلكا فلم يخشه * وأقدم إقدام مستأسد
فأفرغ نار سداسيّه * على القوم أيا تصب تقصد
وضارب بالسيف يمنى ويسرى * فأين يصب مغمدا يغمد
خليل مطران شاعر الدراما المسرحية
لقد اهتم الشاعر خليل مطران بالدراما الشعرية مثلما اهتم بالشعر الملحمي ، بل حاول أن يحاكي تجربته الملحمية على الشعر الدرامي ، وفي ذلك يقول حنا الفاخوري : ‘ ومن حسنات خليل مطران أنه أدخل على الشعر العربي فن الدراما …وآثر أن يعالج الدراما كما عالج الملحمة ، في غير تقيد بنظام المسرح ، وإن تقيد بنظام السرد ، ونظام السياق ، ونظام الحركة الحياتية في ما يقال وفي ما يفعل ‘ .
– يصور لنا الشاعر مشهد موعد للقاء فتاة بحبيبها خفية ، فيقول :
تختال في أثوابها السوداء * عن قطعة تمشي من الظلماء
طورا تظل وتارة تتعثر * وفؤادها متفزع متطير
وتكاد ، إن لمحت إشارة نور * تنحل مثل غياهب الديجور
خليل مطران شاعر الطبيعة الحالم
لقد انغمست روح الشاعر في الطبيعة الساحرة ، فكان يتحدث بلسانها ، ويناجي أسرارها ، فيبدع في خلق المشاهد والأحداث ، ويبرع في وصف تجليات الطبيعة ، التي ترجمتها أحاسيسه الرقيقة ، ورؤيته العميقة للأشياء ، والتي طغى عليها الألم والحزن ، فكان ينتظر قدره المحتوم الذي يرسم في الأفق علامات من التشاؤم .
يا للغروب وما به من عبرة * للمستهام وعبرة للرائي
أوليس نزعة للنهار ، وصرعة * للشمس بين جنازة الأضواء
أوليس طمسا لليقين ، ومبعثا * للشك بين غلائل الظلماء
مختارات من أشعار خليل مطران
سجدوا لكسرى إذ بدا إجلالا * كسجودهم للشمس إذ تتلالا
يا أمة الفرس العريقة في العلا * ماذا أحال بك الأسود سحالا
كنتم كبارا في الحروب أعزة * واليوم بتّم صاغرين ضئالا
……………..
ايه آثار بعلبك سلام * بعد طول النهار وبعد المزار
ذكريني طفولتي وأعيدي * رسم عهد عن أعيني متوارى
يوم أمشي على الطلول السواجي * لا افترار فيهن إلا افتراري
……………..
داء ألمّ فخلت فيه شفائي * من صبوتي فتضاعفت برحائي
يا للضعيفين استبدا بي وما * في الظلم مثل تحكم الضعفاء
قلب أذابته الصبابة والجوى * وغلالة رثت من الأدواء
……………..
شردوا أخيارها بحرا وبرا * واقتلوا أحرارها حرا فحرا
إنما الصالح يبقى صالحا * آخر الدهر ويبقى الشر شرا
كسروا الأقلام هل تكسيرها * يمنع الأيدي أن تنقش صخرا
قطعوا الأيدي هل تقطيعها * يمنع الأعين أن تنظر شزرا
أطفئوا الأعين هل إطفاؤها * يمنع الأنفاس أن تصعد زفرا
أخمدوا الأنفاس هذا جهدكم * وبه منجاتنا منكم فشكرا
……………..
مراجع ومصادر :
– تاريخ الأدب العربي الحديث ( حنا الفاخوري ) .
– خليل مطران الشاعر ( ميشال جحا ) .