قد تحمل ضرورة كسب العيش أحدا إلى بلد بعيد يستوطنه ؛ لكنه لا ينسى وطنه الأول ، وخصوصا إذا كان رقيق العاطفة ، كشاعرنا إيليا أبو ماضي الذي غنى للوطن وناجاه . هذا ما سنكتشفه في موضوعنا ‘ شرح قصيدة وطن النجوم ‘ .
قصيدة وطن النجوم
وطن النجوم ! أنا هنا * حدّق ، أتذكر من أنا ؟
ألمحت في الماضي البعيد * فتى غريرا أرعنا ؟
جذلان يمرح في حقو * لك كالنسيم مدندنا
المقتنى المملوك مل * عبه وغير المقتنى
يتسلق الأشجار لا * ضجرا يحس ولا ونى
ويعود بالأغصان يب * ريها سيوفا أو قنا
ويخوض في وحل الش * تاء مهلهلا متيمنا
لا يتقي شر العيو * ن ولا يخاف الألسنا
ولكم تشيطن كي يدو * ر القول عنه تشيطنا
أنا ذلك الولد الذي * دنياه كانت هاهنا
أنا من مياهك قطرة * فاضت جداول من سنا
أنا من ترابك ذرة * ماجت مواكب من منى
أنا من طيورك بلبل * غنى بمجدك فاغتنى
حمل الطلاقة والبشا * شة من ربوعك للدنى
كم عانقت روحي ربا * ك وصفقت في المنحنى
للبحر ينشره بنوك * حضارة وتمدنا
لليل فيك مصليا * للصبح فيك مؤذنا
للشمس تبطىء في ودا * ع ذراك كي لا تحزنا
للبدر في نيسان * يكحل بالضياء الأعينا
فيذوب في حدق المها * سحرا لطيفا لينا
للحقل يرتجل الروا * ئع زنبقا أو سوسنا
للعشب أثقله الندى * للغصن أثقله الجنى
عاش الجمال مشردا * في الأرض ينشد مسكنا
حتى انكشفت له فأ * لقى رحله وتوطنا
واستعرض الفن الجبال * فكنت أنت الأحسنا
قاموس الكلمات
حدق إليه : حدد النظر إليه .
غريرا : شابا لا تجربة له .
أرعن : أهوج ، أحمق .
جذلان : فرحا .
الونى : الضعف والتعب .
الذرى : الأمكنة المرتفعة .
نيسان : شهر أبريل
المها : البقرة الوحشية ، وكثيرا ما يشبه بها شعراء العرب في حسن العينين .
شرح أبيات قصيدة وطن النجوم
لقد أبدع الشاعر الرقيق إيليا أبو ماضي في مناجاة وطنه أيما إبداع ، ويكفي أن تنظر إلى هذه الأبيات التي تفوح إحساسا وشوقا وحنينا ، فلقد هاجر الشاعر إلى أمريكا ، واستوطن هناك ردحا من الزمان ، لكنه لم ينس أبدا وطنه الأم ( لبنان ) الذي عرف الحياة والمنشأ فيه .
يعود بنا الشاعر إلى الزمن الماضي وذكريات الصبا والشباب الجميلة ، حيث يقف في مشهد مؤثر ، يرسم فيه صورا من طفولة يغلبها الطيش والشقاوة ، طفولة ترعرعت وسط حقول بلاده الواسعة ، وأشجارها المورقة ، وغصونها الباسقة .
يرسم لنا صورة الفتى الذي اتخذ من أغصان الأشجار سيوفا ، وتبارز بها – لعبا – مع أقرانه ، ويغوص في وحل الشتاء غير آبه بثيابه ، وبنظرة الناس وسخطهم .
وفي صورة طريفة جميلة ، ومن شدة شقاوة شاعرنا ، كانوا يصفونه بالشيطان ، وذلك كناية عن الخفة والشغب والطيش الذي تميزت به طفولته .
ويخوض في وحل الش * تاء مهلهلا متيمنا
لا يتقي شر العيو * ن ولا يخاف الألسنا
ولكم تشيطن كي يدو * ر القول عنه تشيطنا
وفي صور غاية في الجمال ، وبليغة في التعبير والأسلوب ، يذوب الشاعر حبا لوطنه ، فتندمج روحه مع وطنه الأم ، فيشكلان كيانا واحدا . فهو قطرة في أنهاره ، وتربة في أرضه ، وبلبل يصدح مغردا بأمجاده وخيراته .
أنا ذلك الولد الذي * دنياه كانت هاهنا
أنا من مياهك قطرة * فاضت جداول من سنا
أنا من ترابك ذرة * ماجت مواكب من منى
أنا من طيورك بلبل * غنى بمجدك فاغتنى
يفتخر الشاعر بحضارة بلاده ، وهمة شبابه ، ويحن إلى شمسه الدائمة المشرقة ، والقمر المضيء الذي يرسم لوحة من الجمال في شهر أبريل ، ويذوب حبا لرائحة الحقول والأزهار .
ويختم الشاعر قصيدته بكلام وحقيقة مؤثرة ، وهي أن الشاعر هاجر وقاسى في بلاد الغربة باحثا عن الحياة الكريمة ، والعيش الرغيد ، لكن السفر والترحال أرهقه ، ويؤمن بأن لا بد للطائر المهاجر أن يعود لعشه ، وكذلك حال الشاعر ، فلقد جاب الأقطار والبلدان ، فلم يجد أفضل من وطنه .
ختاما
قصيدة وطن النجوم للشاعر ايليا أبو ماضي ، هي ملك لكل مغترب يحن لوطنه ، لكل من يحن لأريج زهر وطنه ، وتربة وطنه .. لكل من يستحضر ذكريات جميلة في أحضان وطنه ، وما زاد القصيدة قوة وجمالا أن الشاعر لم يسمي بلاده ، وبالتالي فقد جعل كلمة الوطن ، شمولية تمس كل قلب يحن لمنبته وأصله .
مصادر :
– ديوان إيليا أبو ماضي .