نشعر بالأمن والطمأنينة في مساكننا ، ونشعر بالأمن والأنس عندما نلتقي بالناس . لكن تخيل شعورك وأنت تبتعد عن مدينتك وسكنك ، وتتوغل في الغاب حيث الوحوش منطلقة حرة ، تلك قصة مغامرة في الغابة ، يرويها لكم صاحبنا كما عاشها .
نزهة إلى المجهول !
كان الوقت أصيلا ؛ وللأصيل في المناطق الحارة حسن وجمال ، وله إشراق يغري بالنزهة ؛ فخرجت إلى الخلاء واتجهت نحو الغرب ، وأوغلت في السير ، ونسيت أني وحدي ، ولا دليل معي . ولما وقفت على خطورة الحال ، هممت بالرجوع ، ولكني ظللت الطريق ، واختلطت عليّ شعاب الوادي ومنافذه ، ثم أقبل الليل بظلامه ورهبته .
في وادي الوحوش المرعب !
وإني لكذلك إذ أبصرت فيلا ضخما كأنه قطعة من جبل يتهادى في مشيته ، ويداعب الهواء بخرطومه ؛ فارتعدت أطرافي وجمد الدم في عروقي ووقفت في مكاني أرقبه من بعيد ؛ فرأيته يقصد غديرا واسعا ، فشرب منه ، ونزل يستحم فيه ، ثم خرج يأكل من غصون الشجر وأوراقه ، ثم عاد إلى الغابة .
ثم أقبل نمر يتبختر ، ويهز ذيله ، ويحرك رأسه ، ويقلّب عينيه في الظلام ، كأنهما جمرتان متّقدتان . فطار لبّي ، وغاب عقلي ، ولم أدر ما أصنع ، وأسلمت نفسي للمقادير ، ولبثت أنظر ما يكون .
وإذا الفيل قد خرج من الغدير ، ومشى إلى الغابة ، فصادفه النمر فوثب على ظهره ، وأنشب فيه مخالبه ، فانتزعه الفيل بخرطومه ؛ ولفّه على وسطه ، وضغطه به حتى كاد يحطم ضلوعه ، ثم قذفه في الهواء ؛ وتلقّاه بنابيه ، وغرزهما في جلده حتى أدماه وحاول أن يرميه تحت أقدامه .
ولكن النمر أفلت منه ، وانهال على خرطومه عضا حتى أسال منه الدم . ثم تمكن الفيل من عدوه ، ورماه تحت أقدامه ، ووقف عليه يضغطه ، والنمر يتقلّب ويئنّ كالفأر بين مخالب القط . ثم سكنت حركته وانقطع صوته ، ولم أدر ما كان بعد ذلك .
إذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا !
ورأيت عن بعد شجرة قصيرة ، فذهبت إليها وتسلقتها ، واختفيت بين أغصانها ، وانتزعت غصنا جعلته هراوة أدافع بها عن نفسي إن حاق بي مكروه ، ولم أذق طعم الكرى في تلك الليلة ، ولم يغتمض لي جفن .
وما كدت ألمح نور الفجر حتى نزلت ، وسرت هائما على وجهي ، فوجدتني على مقربة من كومة حطب . ولم أكد أدنو منها حتى أبصرت الأفاعي والحيات تخرج منها كأنها الهراوات الضخمة أو الجبال العظيمة ، فخفق قلبي ، وجمدت في مكاني لا أستطيع حركة ، ولا أعي شيئا .
وزادني رعبا أن رأيت حيّة قد استدارت حول نفسها ، ونظرت إليّ وقد تحوّت كأنها خرطوم ملفوف من خراطيم الماء ، ثم رفعت رأسها ، ووقفت على ذنبها ، ومدت عنقها ، وتوقدت عيناها ؛ وملأت الجو فحيحا ، وخيّل إليّ أنها تهمّ بأن تبتلعني . وبينما هي كذلك إذ أقبل سرب من الطير يسدّ الأفق ، فذعرت الحيّة وولّت هاربة .
طريق النجاة أخيرا
وقد خفت أن يدركني الليل في هذا المكان الموحش ؛ فنهضت وسرت في الطريق التي أقبلت منه الطيور ، فأشرفت على نهر صغير ، تقوم بجواره أشجار عالية ، فلما بلغتها وجدتها أشجار النارجيل وفوقها قردة تأكل من ثمرها ، فلما رأتني ملأت الجو بصياحها ، وكشرت عن أنيابها ، وكان الجوع قد هدّني ، فأخذت أرميها بالحجارة ، ولولا أني اختبأت وراء دومة ضخمة لحطمت رأسي .
ثم التقطت بعض الثمر ، وأويت إلى مكان أمين ، فأكلت منه ، ثم غلبني النوم ؛ فأغفيت قليلا ثم انتبهت مذعورا على صوت رجل ينادي رفاقا له من الصيادين ، فلما رأوني أقبلوا علي ، وسألوني عن شأني فأخبرتهم بما كان من أمري فرثوا لحالي ، وهنأوني بالسلامة وحملوني معهم .
حلوة جدا