لقد اهتم شاعر الهمة والفخر ونشود العلياء ، بالحكمة والفخر والمدح أكثر ما يكون ، وبالتالي كانت أشعاره في الغزل قليلة ومشتتة ، إذ أن طموحه لا يترك له مجالا للالتفات لضروب العشق الطويلة ، ومع ذلك فقد أبدع في هذا الفن ، لتمكنه من لغة البيان .
ولقد حاولنا في هذا الموضوع أن نختار لكم باقة متنوعة من أشعار أبي الطيب المتنبي التي خلّفها في الحب والغزل .
أشعار و خواطر المتنبي في الحب ( 1 )
لما تقطعت الحمول تقطعت * نفسي أسى وكأنهن طلـوح
وجلا الوداع من الحبيب محاسنا * حسن العزاء وقد جلين قبيح
فيد مسلمة وطرف شاخص * وحشا يذوب ومدمع مسفوح
يجد الحمـام ولـو كوجدي لانبرى * شجر الأراك مع الحمام ينوح
***
حُشاشةُ نَفسٍ وَدّعتْ يوْمَ وَدّعوا * فَلَمْ أدرِ أيّ الظّاعِنَينِ أُشَيِّعُ
أشاروا بتَسْليمٍ فَجُدْنَا بأنْفُسٍ * تَسيلُ مِنَ الآماقِ وَالسَّمُّ أدْمُعُ
حَشَايَ على جَمْرٍ ذَكيٍّ مِنَ الهَوَى * وَعَيْنايَ في رَوْضٍ من الحسنِ تَرْتَعُ
وَلَوْ حُمّلَتْ صُمُّ الجِبالِ الذي بِنَا * غداةَ افترَقْنا أوْشكَتْ تَتَصَدّعُ
بمَا بينَ جَنبيّ التي خاضَ طيْفُهَا * إليّ الدّياجي وَالخَلِيّونَ هُجّعُ
أتَتْ زائِراً ما خامَرَ الطّيبُ ثَوْبَها * وكالمِسْكِ مِن أرْدانِها يَتَضَوّعُ
فما جلَسَتْ حتى انثَنَتْ توسعُ الخُطى * كَفاطِمَةٍ عن دَرّها قَبلَ تُرْضِعُ
فَشَرّدَ إعظامي لَها ما أتَى بهَا * مِنَ النّوْمِ والْتَاعَ الفُؤادُ المُفَجَّعُ
***
الحُبُّ ما مَنَعَ الكَلامَ الألْسُنَا * وألَذُّ شَكْوَى عاشِقٍ ما أعْلَنَا
ليتَ الحَبيبَ الهاجري هَجْرَ الكَرَى * من غيرِ جُرْمٍ واصِلي صِلَةَ الضّنى
بِتْنَا ولَوْ حَلّيْتَنا لمْ تَدْرِ مَا * ألْوانُنَا ممّا اسْتُفِعْنَ تَلَوُّنَا
وتَوَقّدَتْ أنْفاسُنا حتى لَقَدْ * أشْفَقْتُ تَحْتَرِقُ العَواذِلُ بَينَنَا
***
في الخَدّ أنْ عَزَمَ الخَليطُ رَحيلا * مَطَرٌ تَزيدُ بهِ الخُدودُ مُحُولا
يا نَظْرَةً نَفَتِ الرُّقادَ وغادَرَتْ * في حَدّ قَلبي ما حَيِيتُ فُلُولا
كَانَتْ مِنَ الكَحْلاءِ سُؤلي إنّما * أجَلي تَمَثّلَ في فُؤادي سُولا
أجِدُ الجَفَاءَ على سِواكِ مُرُوءَةً * والصّبرَ إلاّ في نَواكِ جَميلا
وأرَى تَدَلُّلَكِ الكَثيرَ مُحَبَّباً * وأرَى قَليلَ تَدَلُّلٍ مَمْلُولا
***
لعَيْنَيْكِ ما يَلقَى الفُؤادُ وَمَا لَقي * وللحُبّ ما لم يَبقَ منّي وما بَقي
وَما كنتُ ممّنْ يَدْخُلُ العِشْقُ قلبَه * وَلكِنّ مَن يُبصِرْ جفونَكِ يَعشَقِ
***
لَيَاليّ بَعْدَ الظّاعِنِينَ شُكُولُ * طِوالٌ وَلَيْلُ العاشِقينَ طَويلُ
يُبِنَّ ليَ البَدْرَ الذي لا أُريدُهُ * وَيُخْفِينَ بَدْراً مَا إلَيْهِ سَبيلُ
وَمَا عِشْتُ مِنْ بَعدِ الأحِبّةِ سَلوَةً * وَلَكِنّني للنّائِبَاتِ حَمُولُ
***
قِفَا قَليلاً بها عَليّ فَلا * أقَلّ مِنْ نَظْرَةٍ أُزَوَّدُهَا
فَفي فُؤادِ المُحِبّ نَارُ جَوًى * أحَرُّ نَارِ الجَحيمِ أبْرَدُهَا
يَا عَاذِلَ العَاشِقِينَ دَعْ فِئَةً * أضَلّهَا الله كَيفَ تُرْشِدُهَا
***
ما أوجه الحضر المستحسنات به * كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية * وفي البداوة حسن غير مجلوب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها * مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ومن هوى كل من ليست مموهة * تركت لون مشيبي غير مخضوب
أشعار و خواطر المتنبي في الحب ( 2 )
إن التي سفكت دمي بجفونها * لمتدر أن دمي الذي تتقلدُ
قالت وقد رأت اصفراري من به * وتنهدت فأجبتها المتنهدُ
فمضت وقد صبغ الحياءُ بياضها * لوني كما صبغ اللجين العسجد
فرأيت قرن الشمس في قمر الدجى * متأوداً غصنٌ به يتأودُ
عدويةٌ بدويةٌ من دونها * سلب النفوس ونار حرب توقد
***
هامَ الفُؤادُ بأعرابِيّةٍ سَكَنَتْ * بَيْتاً من القلبِ لم تَمدُدْ له طُنُبَا
مَظْلُومَةُ القَدّ في تَشْبيهِهِ غُصُناً * مَظلُومَةُ الرّيقِ في تَشبيهِهِ ضَرَبَا
بَيضاءُ تُطمِعُ في ما تحتَ حُلّتِها * وعَزّ ذلكَ مَطْلُوباً إذا طُلِبَا
كأنّها الشّمسُ يُعْيي كَفَّ قابضِهِ * شُعاعُها ويَراهُ الطّرْفُ مُقْتَرِبَا
***
وَمَا العِشْقُ إلاّ غِرّةٌ وَطَمَاعَةٌ * يُعَرّضُ قَلْبٌ نَفْسَهُ فَيُصَابُ
وَغَيرُ فُؤادي للغَوَاني رَمِيّةٌ * وَغَيرُ بَنَاني للزّجَاجِ رِكَابُ
***
أرَقٌ عَلى أرَقٍ وَمِثْلي يَأرَقُ * وَجَوًى يَزيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ
جُهْدُ الصّبابَةِ أنْ تكونَ كما أُرَى * عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وقَلْبٌ يَخْفِقُ
مَا لاحَ بَرْقٌ أوْ تَرَنّمَ طائِرٌ * إلاّ انْثَنَيْتُ وَلي فُؤادٌ شَيّقُ
جَرّبْتُ مِنْ نَارِ الهَوَى ما تَنطَفي * نَارُ الغَضَا وَتَكِلُّ عَمّا يُحْرِقُ
وَعَذَلْتُ أهْلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُهُ * فعجبتُ كيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ
وَعَذَرْتُهُمْ وعَرَفْتُ ذَنْبي أنّني * عَيّرْتُهُمْ فَلَقيتُ فيهِ ما لَقُوا
***
مِمّا أضَرّ بأهْلِ العِشْقِ أنّهُمُ * هَوَوا وَمَا عَرَفُوا الدّنْيَا وَما فطِنوا
تَفنى عُيُونُهُمُ دَمْعاً وَأنْفُسُهُمْ * في إثْرِ كُلّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ
***
عَذْلُ العَواذِلِ حَوْلَ قَلبي التّائِهِ * وَهَوَى الأحِبّةِ مِنْهُ في سَوْدائِهِ
وَهَوَى الأحِبّةِ مِنْهُ في سَوْدائِهِ * وَيَصُدُّ حينَ يَلُمْنَ عَنْ بُرَحائِهِ
***
الحُبُّ ما مَنَعَ الكَلامَ الألْسُنَا * وألَذُّ شَكْوَى عاشِقٍ ما أعْلَنَا
ليتَ الحَبيبَ الهاجري هَجْرَ الكَرَى * من غيرِ جُرْمٍ واصِلي صِلَةَ الضّنى
أشعار و خواطر المتنبي في الحب ( 3 )
أبْلى الهَوَى أسَفاً يَوْمَ النّوَى بَدَني * وَفَرّقَ الهَجْرُ بَيْنَ الجَفنِ وَالوَسَنِ
رُوحٌ تَرَدّدَ في مثلِ الخِلالِ إذا * أطَارَتِ الرّيحُ عنهُ الثّوْبَ لم يَبنِ
كَفَى بجِسْمي نُحُولاً أنّني رَجلٌ * لَوْلا مُخاطَبَتي إيّاكَ لمْ تَرَني
***
نَشَرَتْ ثَلاثَ ذَوائِبٍ من شَعْرِها * في لَيْلَةٍ فَأرَتْ لَيَاليَ أرْبَعَا
واستَقْبَلَتْ قَمَرَ السّماءِ بوَجْهِها * فأرَتْنيَ القَمَرَينِ في وقْتٍ مَعَا
رُدّي الوِصالَ سقَى طُلولَكِ عارِضٌ * لوْ كانَ وَصْلُكِ مِثْلَهُ ما أقْشَعَا
***
يا طفلة الكف عبلة الساعد * على البعير المقلدِ الواخدْ
زيدي أذى مهجتي أزدك هوى * فأجهل الناس عاشقٌ حاقدْ
حكيت يا ليل فرعها الوارد * فاحك نواها لجفني الساهدْ
طال بكائي على تذكرها * وطلت حتى كلاكما واحدْ
***
أحْيَا وَأيْسَرُ مَا قاسَيْتُ ما قَتَلا * وَالبَينُ جارَ على ضُعْفي وَمَا عَدَلا
وَالوَجدُ يَقوَى كما تَقوَى النّوَى أبداً * وَالصّبرُ يَنحلُ في جسمي كما نَحِلا
لَوْلا مُفارَقَةُ الأحبابِ ما وَجَدَتْ * لهَا المَنَايَا إلى أرْوَاحِنَا سُبُلا
بمَا بجفْنَيْكِ من سِحْرٍ صِلي دَنِفاً * يهوَى الحيَاةَ وَأمّا إنْ صَدَدتِ فَلا
***
فَمَا أمُرّ برَسْمٍ لا أُسَائِلُهُ * وَلا بذاتِ خِمارٍ لا تُريقُ دَمي
تَنَفّسَتْ عَن وَفاءٍ غيرِ مُنصَدِعٍ * يَوْمَ الرّحيلِ وشَعْبٍ غَيرِ مُلْتَئِمِ
قَبّلْتُها وَدُمُوعي مَزْجُ أدْمُعِهَا * وَقَبّلَتْني على خَوْفٍ فَماً لفَمِ
قد ذُقْتُ ماءَ حَياةٍ مِنْ مُقَبَّلِها * لَوْ صَابَ تُرْباً لأحيا سالِفَ الأُمَمِ
تَرنو إليّ بعَينِ الظّبيِ مُجْهِشَةً * وتَمْسَحُ الطّلَّ فَوْقَ الوَرْدِ بِالعَنَمِ
مصادر :
– ديوان المتنبي .