الإثنين 15 أبريل 2024

قصص قصيرة مؤثرة : المرأة الفاتنة والرجل الحكيم

تم التحديث في: 2023-02-02

قصص قصيرة مؤثرة حيكت فصولها وشخصياتها على أرض الواقع ، فتستلهم منها ما تستلهم من عبر ورؤى تعبر عن مكنونات النفس وتجلياتها ، وأسرار القلوب وتقلباتها .

قصتنا اليوم تحكي عن صراع رغبات النفس الإنسانية ، أبطالها امرأة جميلة فاتنة سلبت الرجال قلوبهم وعقولهم ، ورجل حكيم أراد القضاء على هذه الفتنة ، فهل استطاع حقا التغلب عليها ؟!

 

قصص قصيرة مؤثرة (1)

 

فاطومي : الجزء الأول

كان رجال المدينة يسمونها ” فاطومي ” ، وكان الشيوخ منهم يسمونها اللعنة ، وكان نسوة المدينة يقولون أنها الشيطان في صورة امرأة ، وكان شباب القرى والمدن جميعا يطلقون عليها اسم ” زهرةالبنفسج اليانعة ” .

ولم تكن فاطومي في منأى عما يقال عنها أو يشاع ، ولكنها كانت تستقبل كل ذلك ساخرة في غير اهتمام ، هازئة بالشباب والرجال والنساء  على حد سواء ، لا تلقى بالا لأحد من هؤلاء أو هؤلاء .

ولكن الشيء الذي لا ريب فيه أنها كانت تنطوي على سر كبير رهيب ، سر لا يعرف أحد كنهه ، وكانت ذات غرض لم تبح به لأحد ، وهدف لم تتحدث به إلى إنسان ، ولكن الناس كانوا يرون عدد ضحاياها يزداد يوما بعد يوم .

كانت فاطومي إذن ذات أهداف شيطانية ، وبدا كأنما اتخذت لنفسها نذرا أن يكون لها من كل قرية ضحية ، وأن تكون الضحية دائما أبدا من ذوي المكانة والجاه والصيت البعيد ، يستوي في ذلك أن يكون شابا وسيما أو شيخا طاعنا ، حسبها أن تهدم ركنا ركينا من الأركان .. فكان الرجال يحترقون وهم يتهاوون في وقودها كما تحترق الشهب أو تتهاوى النجوم في عالم الهباء .

عشرات من الكهول والشباب ساروا من خلفها أسارى هذه النظرات الساجية ، أو عبيدا لذلك الجيد العاجي ، أو مسربلين بأغلال ذلك الصوت الدافئ الحنون ، أو مأخوذين بروعة هذا الجسد الفتان ..

وذهب الناس في تأويل شأنها مذاهب شتى ، فقال بعضهم .. امرأة غدر بها رجل تدلهت في هواه فعذبها ، وألقى بها حطاما فهي تنتقم لنفسها ولجنسها بإذلال الرجال ، وقال آخرون : بل مخلوقة شاذة ومصاصة دماء لا ترتوي ، وقال آخرون : بل هي لون من ألوان البلاء الذي يتعرض له الناس ليمتحنوا في إرادتهم وعزمهم ، وقال آخرون غير هذا وذاك ، ولكنها آثرت الصمت عند كل سؤال فلا تجيب .

ولم يكن هناك رغم ذلك للراغبين في تذوق هذه الفتنة من عاصم ، وكانت على ثقة من أمرها ، فكم ابتسمت لأولئك الذين كانوا يلعنونها ، فإذا بهم ينسون اللعنات ، ويتنافسون في مرضاتها .

كانت ذا قدرة لا تحد في صيد الرجال ، تمسك بطرف الحبل ، وتعقد الطرف الآخر كالأنشوطة وتلقي به على من تشاء فإذا بها تجره إليها جرا .

وكان ممن وقعوا في قبضتها رجل كان على درجة كبيرة من خلق وعفة وحياء ، وكان ذا زوج وأطفال ، فوجمت زوجته وعقدت الدهشة لسانها ، وشلت المفاجأة إحساسها – فلم تعرف من قبل على رجلها ريبة – وضربت يديها أسفا وحسرة ، كيف وقع ذلك القوي الأمين في ذلك الشرك المهين ؟!

ولكن الزوجة كانت على شيء من الحكمة والأناة ، فلم تشأ أن تقيم على الأمر فضيحة ، فما أبعد الفضائح في علاج الأمور ، إنها إن فعلت فلن تزيد على أن تجعله يخرج بأمره ذاك من الإسرار إلى الإعلان ، ثم لا شيء بعد ذلك على الإطلاق .

كان عليها إذن أن تعالج الأمر في هدوء ، ولم يكن أمامها إلا أن تلج باب الحكيم هارون .

فاطومي : الجزء الثاني

كان هارون حكيم القرية غير منازع ، وكان رغم عدم تجاوزه سن الشباب يلقب بالحكيم لكثرة علمه ، ومزيد ورعه ، وكان قد أوتي بسطة في العلم والجسد ، مع قوة العقل ، ومتانة الخلق ، وصلابة العزيمة ..

وكان هارون على علم بأمر فاطومي ، يتحرق شوقا من شهور كي تتاح له فرصة تأديبها وكسر شوكتها وإنقاذ الناس من شرها .

وكان الحكماء وذوو الرأي حين يسمعون بالقصص الكثيرة عن فاطومي يهزون رؤوسهم أسفا ويقولون ، لن ينقذنا منها غير هارون بحزمه وبأسه ، وشدة غيرته على دينه ، واستعلائه على كل الفتن التي يتعرض لها الشباب .

فلما لجأت الزوجة المهيضة الجناح إلى هارون ، استمع إلى القصة وهو يتميز من الغيظ ، وقرر أن يضع للشيطان في القرية حدا ، وكان الوقت مساء فلم يطق صبرا أن ينتظر الصباح ، فأخذ عصاه ، وتوجه من فوره إلى وكرها …. إلى بيت فاطومي .

كان الليل هادئا ساكنا كأنما يصغي إلى صوت عذب ذا رنين ذهبي يأتي من بعيد ، من خلف أسوار الحديقة حيث كانت فاطومي في شرفة دارها في هذه الليلة من صيف يوليو مسترسلة وحدها في الغناء ..

وتوقف هارون وأخذ يستعيد الكلمات النارية التي سيصبها على فاطومي صبا ، فلما اطمأن تماما إلى ثقته بنفسه وبأسه ، تقدم خطوات وقرع الباب .

ولم يجبه أحد ، ومرت اللحظات وهو ما زال ينتظر ، كان كبركان يتلظى داخله من الحمم .. لقد تذكر كل ما جرته هذه المرأة على الناس من وبال ، وها هي هناك في الشرفة تغني ، في غير مبالاة بالطارق الليلي ، لقد تعودت أن تستهين بالرجال ، أن تدعهم عند أبوابها يلهثون ، ولكنه ليس من ذلك الصنف ، من ضعاف النفوس ، أسرى الأهواء .

لقد شد من قبضة يده وتقدم في ممشى الحديقة ، واعترض طريقه عود ياسمين فانتزعه من الشجرة في عنف وقسوة ، وألقاه أرضا ، وداسه بقدميه ، ونظر صوب مصدر الصوت ، فإذا بفاطومي في غلالة بيضاء من نسج شفيف يشي بكل مفاتن جسدها ، وكانت تدور حول نفسها راقصة في مرح ، وهي تغني كأنها عابدة لجمالها ، تتعبد لذلك الجمال ، وأغمض عينيه وتمتم ببضع كلمات وهو يقول في نفسه :

ما أشد وطأة هذه الفتنة على قلوب الشباب ! ؟ .. أي مخلوق من طين يستطيع الصمود أمام هذا الإغراء ! ؟ ووقف منها غير بعيد يرسل من عينيه نظرات كأنها شواظ من نار .

وتوقفت فاطومي عن رقصها هنيهة ، وجمعت في غير اهتمام أطراف غلالتها وهتفت في غير خوف أو وجل . من .. ؟ من الطارق ! ؟

فتقدم خطوات في عزم وتصميم . وقال : هارون .. الحكيم هارون أيتها السيدة فاطومي .

 

قصص قصيرة مؤثرة (2)

 

فاطومي : الجزء الثالث

ولم تصدق فاطومي أذنيها ، إنه الرجل الذي كان يمعن في صب اللعنات عليها ، وكانت تتحرق شوقا لتوقع به .. ترى أجاء كما يجيء الآخرون .. ! ؟ قالت فاطومي في نفسها ليس الأمر بمستبعد فأكثر الرجال سواء … أيكون ذلك حقا . ! ؟ أيكون هارون بنفسه وشخصه .. ! ؟ أيكون ذلك الذي استعصى عليها أعواما طوالا ؟

ومسحت عينيها مرتين حتى تأكدت أنه ليس سواه ، وعلت على الفور شفتيها ابتسامتها الآسرة ، وارتسمت في عينيها النظرات النفاذة الآمرة وهبطت إلى الحديقة ، إلى حيث يقف وهي تردد مرحبا وأهلا .. أي ريح طيبة تلك التي جاءت إلى داري بالبركات .. ! ؟

وفارت الدماء في قلب هارون غيظا وغضبا ، وارتسمت في ذاكرته صور الضحايا من القرى القريبة والبعيدة ، فتقدم إلى المقعد وأرسل في هدوء قوي مشحون بالإيحاء …

أيتها السيدة فاطومي ، لي معك حديث قصير . وليكن هنا في هذه اللحظات ، في تلك الحديقة ، لن أردد القول بأنك رجس من عمل الشيطان ، أو أنك فتاة مطرودة من رحمة الله ، لا أيتها السيدة ، لن أقول هذا القول مهما كنت تتمرغين في الغواية والضلال ، فما أنت على كل حال إلا أخت في الإنسانية ، إن كان قلبك اليوم في غفلة من أمرك فسوف ينكشف لك الغطاء في يوم من الأيام .

إنك جميلة أيتها السيدة بغير شك ولا نزاع ، جميلة في الظاهر ، كجمال قشرة التفاح ، ولكن ليس في داخلك ما في داخل التفاحة ، خلف قشرتك الظاهرة عفن وديدان في يوم قريب أو بعيد سيذهب هذا الجمال ، ولكنه يوم آت لا ريب فيه ، وفي ذلك اليوم سيمر بك الذين كانوا يسجدون لهذا الجمال فلا يمنحونه بعد أن يولي إلا اللعنات والبصقات ، وستنهض أرماس الضحايا من قبورها لتطارد روحك يوم تستيقظ وتلعنك ، ستطاردك اللعنة حتى القبر .

أيتها السيدة ذات الغلاف الجميل الزائف ، هناك جمال آخر في الأعماق أشد قوة وأعظم خلودا .. ابحثي عن هذا الجمال ، إنه هو الباقي .. اخرجي من قشرتك الظاهرة العفنة ، وغوصي في أعماق عالم الجمال الأبدي ..

لأول مرة استمعت فاطومي في حياتها لمثل هذه الكلمات ، فشملها غضب شديد ، ولكنها جمعت غلالتها تماما ، وتداخل بعضها في بعض وصرخت في وجه هارون : انسحب من وجهي ..

فقال هارون وهو ينسحب : ستذبلين أيتها السيدة وشيكا كما تذبل الوردة ، وتداس البقايا منك بعد ذلك بالأقدام .

وأمام صرخاتها العالية انسحب تماما ، فأمسكت بحجر وألقت به من خلفه وهو يبرح الباب ، ثم عادت مسرعة إلى غرفتها ، وانكفأت في فراشها تبكي ، وامتد بها البكاء ساعات وساعات .. وانتبهت إلى نفسها فوقعت على صورتها في المرآة ، وبدا لها – كما قال الشيخ – أن جيوشا من الديدان تتلوى على وجهها الجميل وتنهشه ، فصرخت وقذفت المرآة بآنية كانت بالقرب منها فهشمتها .

وعاد هارون إلى بيته هادئ النفس ، يتصور أنه قد أدى رسالته ، وحاول أن يوقظ منها الضمير .. وجلس شاردا يتذكر تفاصيل هذه المغامرة ، وعلى الرغم منه ارتفعت همسات من أعماقه .. ما أروع فتنتها ! ؟ وما أجمل هذا الجسد ! ؟ وارتسمت صورتها أمامه وهي تدور في غلالتها راقصة تتعبد لجمالها ، ومرت دقائق وهو يحدق مأخوذا في هذا الخيال الفاتن الساحر الأخاذ .

 

فاطومي : الجزء الرابع

ولم ينم هارون هذه الليلة ، ولم يستطع أن يقرأ كثيرا في الكتاب ، لقد أتيحت له فرصة ، لقد حام حول الحمى وقضى لحظات في حضرة امرأة ، لم يكن غيره وإياها ، لم يكن هناك من ثالث ، ولكن ماذا يحدث حين يجتمع رجل وامرأة .. ؟ أيكون الشيطان قد حضر ووسوس ! ؟ أكان عليه أن يأخذ معه صديقا رفيقا يبدد وجوده سحر الخلوة ومفاتنها ووسوسة الشرير .. ! ؟

راح هارون يدير هذه المعاني في رأسه ، ولكن الخيال الراقص كان قد انتقل إلى خاطره ، وراح الخيال يدق في عنف وقسوة كل كيانه .. وفي أحلام اليقظة تمنى أشياء كان يخجل أن يديرها على لسانه .

أي طعم لهذه الفاكهة الحلوة .. !! ؟ بل أي طعم ؟

ومرت أيام .. وأيام .. وأيام ..

استيقظ في فاطومي شيء جديد ، لقد رأت نفسها على ضوء هذه الحقيقة التي كشفتها كلمات هارون ، وأدركت تماما أنها كانت تعيش في الوحل والعفن ، وراحت تحن إلى عالم الجمال الحقيقي .. والطهر والصفاء ، بينما كان هارون نفسه يسبح في خيال عالم الأماني العذب .. يتمنى لو تتاح له الفرصة ليتقرب من الشجرة ….

وذات مساء رأى نفسه على الرغم منه عند بابها .. كان يقدر تماما أنها تحن إلى الإيقاع به .. وها هو ذا قد جاء إلى كنوز الفتنة يسعى ، وقد قرر أن يلبي ندا الجمال ، ويتذوق ثمار شجرة التفاح ..

وتوقف عند باب الحديقة ، واستمع إلى وجيب قلبه الذي أخذت دقاته تعربد قوية مجلجلة في صندوق صدره ، ولعله هم أن يتراجع ، ولكن قوة لا قبل له على دفعها شدته إلى الداخل ، وكان باب شرفتها مفتوحا فراح يتقدم .. ويتقدم . وهناك رأى فاطومي على صورة لم يعهدها من قبل .

كانت واقفة وظهرها إليه ، فظل لحظات يتعبد لهذا الجمال القاهر المنقطع النظير ، وانتظر حتى تلتفت إليه ، ولكن الأمر امتد دقائق .. ودقائق ، حتى ظنها قد سمرت في مكانها ذاك .. وأصاخ السمع فإذا به يضطرب ولا يستطيع أن يتماسك ..

لقد كانت الغانية تتلو الآيات .. لقد كانت تصلي .. حتى إذا أتمت صلاتها ، استدارت إليه بوجه تحيط به هالة من نور وابتسمت ، لترحب بهاديها ومنقذها ، وهمت أن تشكره ولكن شيئا رهيبا فظيعا في عينيه أخافها فسترت عينيها بيديها ، وهمست وقد أدركت كل شيء . لا .. لا أيها الحكيم .. عد من حيث جئت ..

فمد يده يريد أن يتحسس جسدها ملاطفا فأمعنت النظر في عينيه ، ثم اندفعت إلى الداخل تصرخ : خنزير .. خنزير ..

فقد رأت في صورته بفراستها التي أصبحت لا تخيب .. أن ذلك الذي اهتدت بكلماته إلى الطريق قد تحول إلى خنزير ..

وشاع أمر هذه الخاتمة بين الناس ، وذهب كل يلتمس منها عبرة من زاوية خاصة فمن قائل : أن على المرء أن يحرس إيمانه ، وأن يتعهده بالرعاية والتثبيت ، وذهب آخرون إلى ما في الخلوة بالمرأة الأجنبية من خطر محقق يعرض القلب للزيغ والضلال .

ولكنهم كانوا جميعا يتحدثون : حقيقة أن العبرة دائما بالخواتيم .. ، فلا يسخر قوم من قوم ولا نساء من نساء ..

اقرأ أيضا :

قصص معبرة عن الحياة

مصادر :

– فاطومي ( محمد لبيب البوهي – الوعي الإسلامي ) .

عن Amjad Bora