لا شك وأن أغلبكم سمع كبار المطربين يرددون هذا البيت الشهير : قل للمليحة في الخمار الأسود …ماذا فعلت بناسك متعبد ، لكن فئة كبيرة من الناس ربما لم تسمع بقصة هذا البيت وتاريخها ، فدعوني أحيطكم بها خبرا .
من هو هذا الناسك المتعبد ؟
هو ربيعة بن عامر الدارمي ، وغلب عليه لقب مسكين الدارمي ، وهو شاعر شريف الأصل والنسب عاش في فترة الخلافة الأموية في الكوفة ، وكان شاعرا معروفا وسط كبار شعراء عصره ، حتى أن الفرزدق كان يخشى مواجهته ، كما كان من المقربين إلى الخليفة ، الشيء الذي فتح عليه أبواب الأعطية والعيش الرغيد ، وانعكف في أواخر حياته إلى العبادة والصلاة والزهد ، حتى وقع له هذا الحادث الطريف ، وهو معرض قصتنا وموضوعنا .
تاجر يشكوا كساد سلعته
قدم أحد التجار إلى المدينة المنورة وبيده سلة من الخُمر السود ، فلم يجد لها طالبا ولا شاريا ، وظل طوال نهاره يجتهد بكل حيلة لبيع سلعته فلم يبع شيئا ، فجلس مغتما مهموما وضاق صدره لذلك ضيقا شديدا ، فأشار إليه أحدهم وقال : إذا أردت أن تبيع خُمرك فاقصد مسكين الدارمي فهو خلاصك .
ونفتح هنا القوس لإشارة تاريخية نعلل بها سبب الإشارة إليه ، فالشاعر مسكين الدارمي كان مشهورا بظرافته وغزله ، وإلى جانب ذلك كان حريصا على المال ، سريع الجواب والبديهة بين أقرانه .
نعود لقصتنا حيث قصد التاجر مسكين الدارمي ، فوجده قد تزهد وانقطع في المسجد ، فأتاه وقص عليه القصة ، فامتنع مسكين بحجة أنه انقطع عن هذه الأمور وزهد عنها ، فقال له التاجر ( والحزن صيّر قلبه ) : أنا رجل غريب ، وليس لي بضاعة سوى هذا الحمل ، ورجاه وتوسله حتى أقنعه ، فخرج مسكين من المسجد وعمل هذه الأبيات وشهرها بين الناس ، وهي :
قل للمليحة في الخمار الأسود * ماذا فعلت بناسك متعبد
قد كان شمّر للصلاة ثيابه * حتى قعدت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه * لا تقتليه بحق دين محمد
فكانت هذه الأبيات أول إعلان وإشهار في التاريخ ، فشاع بين الناس خبر أن مسكين الدارمي عاد إلى مجونه وعشق فتاة ذات خمار أسود ، فانكبت النساء يشترين الخُمر السود ، وباعها التاجر بأضعاف ثمنها ، وعاد إلى دياره غانما مبتهجا ، وعاد مسكين بدوره إلى تعبده ونسكه .
وقد عارض بعض الشعراء هذه الأبيات وردوا عليها ، مثل :
التنوخي وصاحبة الخمار المذهب
قل للمليحة في الخمار المذهب * أفسدت نسك أخي التقي المترهب
نور الخمار ونور خدك تحته * عجبا لوجهك كيف لم يتلهب
وجمعت بين المذهبين فلم يكن * للحسن عن نهجيهما من مذهب
الحامدي وصاحبة الخمار المشمشي
قل للمليحة في الخمار المشمشي * كم ذا الدلال عدمت كل محرّش
يا من غذا قلبي كنرجس طرفها * في الحب لا صاح ولا هو منتشي
هذا الربيع بصحن خدك قد بدا * لمقبّل ومعضّض ومخمّش
خير جليس في الانام كتاب
شكرا لاهتمامكم