لطالما اعتبر السيف رمزا للقوة والغلبة ، والقلم رمزا للفكر والمعرفة ، وهما مظهران ملازمان للبشر ، بهما سطر تاريخ ، وبنيت أمجاد ، وقامت حروب ، واليوم يلتقيان معنا في مناظرة بينهما حيث يزعم كل منهما أنه أفضل من الآخر ، فلنستمع إليهما ، ونترك الحكم لكم أيها القراء الكرام .
مناظرة السيف والقلم
قال القلم للسيف : فررت من الشريعة و عدلها ، و عوّلت على الطبيعة و جهلها ، فافتخرت بحيفك و عدوانك ، و اعتمدت في الفضل على تعديك و طغيانك ، فملت إلى الظلم الذي هو إليك أقرب ، و غلب عليك طبعك في الجور و الطبع أغلب ، فلا فتنة إلا و أنت أساسها ، و لا غارة إلا و أنت رأسها ، و لا شر إلا وأنت فاتح بابه ، ولا حرب إلا و أنت أصل أسبابه ، تؤكد مواقع الجفاء ، و تكدّر أوقات الصفاء ، و تؤثر القساوة ، و توتر العداوة .
أما أنا فالحق مذهبي ، و الصدق مركبي ، و العدل شيمتي ، و حلية الفضل زينتي ، إن حكمت أقسطت ، وإن استحفظت حفظت و ما فرطت ، و لا أفشي سرا يريد صاحبه كتمه ، و لا أكتم علما يبتغي متعلمه علمه ، أستودع القرطاس أنغام قيثارتي ، فأزري بالمزامير ، وأهزأ بالمزاهر ، و أنفث فيه سحر بياني ، فألعب بالألباب ، و أستجلب الخواطر ، و أنفذ جيوش سطوري على بعد فأهزم العساكر :
فلكم يُفلّ الجيش و هو عرمرم * و البيض ما سُلّت من الأغماد
فقال السيف : أطلت الغيبة ، و جئت بالمصيبة ، و سكتّ ألْفا و نطقت خلفا :
السيف أصدق إنباء من الكتب * في حده الحد بين الجد و اللعب
إن نجادي لحلية للعواتق ، ومصاحبتي آمنة من البوائق ، ما تقلدني عاتق إلا بات عزيزا ، ولا توسدني ساعد إلا كنت له حرزا حريزا ، لم أزل للنصر مفتاحا وللظلام مصباحا ، وللعز قائدا ، وللعدى ذائدا ، فأنى لك بمساجلتي ومقاومتي في الفخر ومنافرتي ، مع عُري جسمك ، ونحافة بدنك وإسراع تلفك ، وقصر زمنك وبخس أثمانك على بعد وطنك ، وما أنت عليه من جاري دمعك ، وضيق ذرعك ، و تفرق جمعك ، و قصر باعك ، و قلة أتباعك .
نظرة وتحليل
انقلبت المناظرة إلى مفاخرة ومعايرة ، كل يمدح مزاياه وينتقص من الآخر ، لكن الأسلوب الأدبي الرائع ، والكلمات المنتقاة بعناية جعلت من هذه المفاخرة عنوانا بارزا يشار إليها بالفخر حقا ، ولا عجب في ذلك إن علمنا صاحب هذا الأسلوب ، إنه القاضي العلّامة القلقشندي ، الذي برع في الكتابة الأدبية والإنشائية أشد البراعة ، حيث ساهم عمله ككاتب في ديوان سلطان مصر ، الظاهر برقوق ، في إنماء موهبته .
إن النظر إلى هذا التص الأدبي البديع ، يحملنا على كشف واستنباط مدلولات ساقها الأديب ببراعة شديدة ، وبأسلوب الرسائل الغير مباشرة ، فإذا كنا نرى في الشكل الخارجي للمناظرة أنها محض مفاخرة بين السيف والقلم بمفهومهما المادي الجامد ، إلا أن الحقيقة تعدت ذلك إلى معاني تضرب في عمق الحياة السياسية والاجتماعية للدولة والإنسانية ككل .
فبسبب السيف انتهكت أعراض ودمرت ممالك ، فهو يحكم القوة والسطوة والبأس ، ولا يعرف أهل الحق والباطل ، بل هو عبد مطيع لليد التي تجيد البطش والفتك ، لكن بالمقابل هو عند أهل الحق لخير ناصر ، وللمظلومين لخير جابر ومخلص . في حين أن القلم بشير بالخير أحيانا ، ونذير بالشر أحايين أخرى ، فبرسالة صغيرة حيكت مؤامرات ، وسقطت إمارات ، وبرسالة أصغر أنقذت أرواح ، وأعطيت هبات وصدقات .
فما رأي قرائنا الأفاضل ؟