موضوع اليوم عن شاعر معتز بنفسه وكبريائه . ينشد الشموخ في كل شيء ، فالليل والخيل والبيداء تعرفه ، والرمح والسيف والقرطاس والقلم ! إنه شاعر اللغة العربية الذي شغل الدنيا والناس : أبو الطيب المتنبي ، فدعونا نتعرف عليه .
محتويات
- 1 من هو أبو الطيب المتنبي ؟
- 2 لماذا سمي المتنبي بهذا الاسم ؟
- 3 وفاة المتنبي ( الشاعر الذي قتله شعره )
- 4 مؤلفات المتنبي
- 5 مكانة المتنبي بين شعراء عصره
- 6 مميزات و خصائص شعر المتنبي
- 7 أبو الطيب المتنبي شاعر الحكمة
- 8 شخصية المتنبي من خلال شعره
- 9 روائع شعر المتنبي ( 1 )
- 10 اجمل اشعار المتنبي ( 2 )
- 11 روائع أشعار المتنبي ( 3 )
- 12 افضل قصائد ابو الطيب المتنبي ( 4 )
- 13 خاتمة بحث عن أبي الطيب المتنبي
من هو أبو الطيب المتنبي ؟
هو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن عبد الجبار الجعفي ، ولد في محلة كندة بالكوفة حوالي سنة 915 ، وكان والده يعرف بعبدان السقاء ، يسقي الماء لأهل قبيلته ، لذا نجد الشاعر دائما يترفع عن ذكر نسبه ، ويستعيض عنها بقدر نفسه وجليل أعماله ، فيقول :
لا بقومي شَرُفت بل شرفوا بي * ونفسي فخرت لا بجدودي
وقد لاحظ عليه أبوه وهو صغير علامات النباهة والذكاء فألحقه بإحدى مدارس الكوفة ، ثم رحل إلى بادية السماوة لينهل من ينابيع اللغة العربية الفصيحة ، حيث فتح لها قلبه فأعطته أسرارها ، فكان شاعر اللغة العربية بحق .
اقرأ : أحمد شوقي : أمير الشعراء ، ومتنبي عصره
لماذا سمي المتنبي بهذا الاسم ؟
كثيرة هي الروايات التي تضاربت حول سبب تسمية أبي الطيب المتنبي بهذا الاسم ، إلا أنهم اتفقوا على أنه سجن في فترة عرفت صراعات وفتن ودعوات سياسية مختلفة ، وفرق دينية متباينة ، فأدلى المتنبي بدلوه في هذا المضمار ، وهو الإنسان الطموح .
ومن هذه الروايات أنه خرج إلى بلاد الشام مدعيا النبوة ، منصبا نفسه داعية من دعاة مذهب الإسماعيلية ، فحُبس حتى استتاب ثم أطلق سراحه .
في حين يرى آخرون أن أصل لقب المتنبي يعود لبعض أبيات شعره ، ولتعاليه الدائم وتعاظمه ، وهو ما يذهب إليه ابن جني ، حيث يرى أن سبب هذا اللقب يعود إلى قول المتنبي :
أنا في أمة تداركها الله * غريب كصالح في ثمود
ويبدو أن دعوى المتنبي كانت سياسية ، إذ هو نفسه يعترف بها فيقول :
ما مُقامي بأرض نخلة إلا * كمقام المسيح بين اليهود
دعوات أثارت عليه الأقاويل والضغائن ، فلا عجب أن يلقب بالمتنبي ، وعلى كل حال لا يهمنا دعوى هذا الشاعر بقدر ما يهمنا ما خلفه لنا من أبيات خالدة تحمل سحر اللغة العربية الأخّاذ .
أبو الطيب المتنبي : الشاعر الباحث عن المجد
ظل المتنبي يتنقل مرتحلا في أنحاء البلاد يبحث عن المجد والسؤدد ، ممتلكا طموحا يناطح السحاب ، لكن الحاجة إلى المال كانت تدفعه إلى المدح قصد التكسب ، لكن قلما جاد عليه ممدوحوه بما يرضي نفسه ، ويقول في ذلك :
أين فضلي إذا قنعتُ من الدهـ * ر بعيش معجّل التنكيد
ضاق صدري وطال في طلب الرز * ق قيامي وقل عنه قعودي
ويقول أيضا :
أظمتني الدنيا فلما جئتها * مستسقيا مطرت علي مصائبا
أبو الطيب المتنبي في رحاب سيف الدولة
بعد أن ذاع صيت الشاعر الطموح ، وأبياته التي تسحر الألباب ، وصل صداه إلى أمير حلب سيف الدولة ، فدعاه إلى الانضمام إلى بلاطه ، فقبل المتنبي بشروط وهي : ألا ينشد الأمير وهو واقف وألا يقبل الأرض بين يديه . فوافق الأمير .
ومنذ ذاك الحين أصبح المتنبي شاعر سيف الدولة المقرب ، والمحفوف بكرمه وعطفه ، حيث يصحبه في حله وترحاله ، الشيء الذي أوغر صدور سائر الشعراء والأدباء حقدا وحسدا ، وتمكنوا في النهاية من إشعال الفتنة بينه وبين الأمير ، فرحل غاضبا متوجها إلى دمشق .
وفي ذلك يقول :
أزل حسد الحساد عني بكبتهم * فأنت الذي صيّرتهم لي حُسّدا
ويقول أيضا :
وفي كل يوم تحت ضبني شويعر * ضعيف يقاويني قصير يطاول
أبو الطيب المتنبي في رحاب كافور الإخشيدي
بعد رحيل المتنبي عن بلاط سيف الدولة ، توجه إلى دمشق أين قرر أن يبدأ رحلة جديدة من نشد العلو والطموح اللامتناهي ، فسمع عنه حاكم مصر كافور الإخشيدي ، فضمه إليه وأكرمه ، وقد مدحه المتنبي بقصائد عدة ، وإن لم تكن بقدر ممدوحه الأول .
ولقد خاب ظن شاعرنا وتبددت طموحاته حين لم يهبه كافور ما يسد رغبته التواقة للتملك ، فقد كان هدف شاعرنا أن ينال ضيعة أو إمارة ، وفي ذلك يقول :
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية * فجودك يكسوني وشغلك يسلب
لكن لم يتأتى له ذلك ، الشيء الذي جعله يحن لأيامه الزاهية رفقة سيف الدولة ، واعتلته رغبة من اليأس والتشاؤم .
وفي ذلك يقول :
ولما صار ود الناس خبا * جَزَيتُ على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه * لعلمي أنه بعض الأنام
يقول البرقوقي شارح ديوان المتنبي : ‘ وليس بعيدا أن يكون كافور كره من الشاعر إلحاحه في طلبه ، ومداومته على التذكير بالوعد ، في لغة يصح أن تسمى تأنيبا وتوبيخا ، فصح في عزمه ألا ينيله طلبته . ‘
وفاة المتنبي ( الشاعر الذي قتله شعره )
لم يطب للمتنبي مستقر في أي موضع من الأرض ، لا سيما أنه لم يجد ما يطمح إليه في بلاط كافور ، فقرر الرحيل خفية في ليلة عيد حزينة ، نظم فيها قصيدته المشهورة :
عيد بأي حال عدت يا عيد * بما مضى أم لأمر فيك تجديد
وظل يتنقل ما بين بغداد وفارس ، ينشد العطايا والهبات ، دون أن يمس ذلك بكبريائه ومجده الذي علته ضبابة من السراب البعيد .
هجا الأمير كافور لبخله وتنكره ، وفي ذات الوقت حنّ لأميره الحمداني ، والذي أرسل إليه يدعوه لمرافقته مثل الأيام الخوالي ، لكن نفس شاعرنا أبت إلا أن تنشد أهدافها الشخصية .
وقد كان السبب الرئيسي في وفاة المتنبي – أو بالأحرى مقتله – أنه هجا رجلا يدعى ضبة بكلام فاحش وخاض في عرضه وعرض أمه ، ومن ذلك قوله :
ما أنصف القوم ضبة * وأمه الطرطبة
وإنما قلت ما قلـ * ـت رحمة لا محبة
وما يشق على الكلـ * ـب أن يكون ابن كلبة
وكان لضبة هذا خال يدعى فاتك بن أبي جهل الأسدي ، وكان اسما على مسمى حيث فتك ثأرا وانتقاما بالمتنبي ، حيث تعرض له حين خرج من فارس إلى بلده العراق ، فقتله وابنه وغلامه ، وذلك في أواخر رمضان حولي سنة 965 م .
وبذلك انطفأت شمعة من الكبرياء والعظمة قلما وجدت في شاعر عُرف في تاريخ الأدب العربي ، شاعر قتله شعره ، وظل إلى آخر رمق يدافع عن مبدأ التملك ونشد العلو والسؤدد ، ذلكم كان شاعرنا المتنبي الذي شغل الدنيا والناس .
مؤلفات المتنبي
– ديوان المتنبي الكبير الذي يحوي ثمين ما جادت به قريحة الشاعر ، وقد عنى بشرحه : الواحدي – أبو العلاء المعري – ناصيف اليازجي – إبراهيم اليازجي – البرقوقي …وغيرهم ، وتنوعت أغراض ديوانه ما بين مدح ورثاء ، وفخر وهجاء ، وغزل وحكم .
مكانة المتنبي بين شعراء عصره
لا يختلف الباحثون على أن المتنبي شاعر ذو وزن ثقيل في ديوان العرب ، وأحد أكثر شعراء العرب شهرة ، ولقد اهتم أهل الأدب بتتبع ودراسة سيرته ، وأضحت أشعاره مضرب الأمثال والحكم ، وشخصيته محط الإعجاب والحسد والغيرة .
شخصية تجمع بين الفتوة والطموح المتقد ، والكبرياء والاعتزاز بالنفس ، ولقد بقيت أشعاره خالدة شاهدة على عبقرية هذا الشاعر الفذ الذي قل أن يجود زمان الشعر بمثله .
مميزات و خصائص شعر المتنبي
حب العظمة ، الثقة في النفس ، الحكمة و الفلسفة ، صفات طبعت خصائص شعر المتنبي والذي تنوعت مصادره وأغراضه ، وقد تمكن بفضل ما أوتي من بيان ومعرفة بلغة الضاد ، أن يصوغ أبيات جرت على ألسنة الناس مجرى الحكم والأمثال .
تنوع اغراض شعر المتنبي : المدح
يشغل المدح القسم الأكبر من ديوان المتنبي ، ولا غرابة في ذلك ، فتلك العادة التكسبية كانت نوعا من تقلد المناصب وطلب العيش الرغيد ، مقابل ما يملكون من موهبة ولسان يقطر كلمات تصل القاصي والداني ، وكأن لسان الشاعر كوسائل الإعلام الآن .
ويحترم في أسلوب مدحه القاعدة التقليدية القديمة ، فتراه يستهل القصيدة بمقدمة غزلية ، ويصف الراحلة ، ثم يصل إلى غرض القصيدة الرئيسي وهو التغني بالممدوح .
يقول في مدح سيف الدولة في واقعة انتصاره على الروم :
وقفتَ وما في الموت شك لواقف * كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة * ووجهك وضاح وثغرك باسم
تنوع اغراض شعر المتنبي : الرثاء
رثى المتنبي أحباءه بحزن عميق ، جسدتها أبياته الباكية الثائرة المتجهمة ، وقد رثى جدته التي يعتبرها والدته فقال :
أحن إلى الكأس التي شربت بها * وأهوى لمثواها التراب وما ضما
أتاها كتابي بعد يأس وترحة * فماتت سرورا بي ، فمتّ بها غما
حرام على قلبي السرور فإنني * أعد الذي ماتت به بعدها سمّا
ورثى خولة أخت سيف الدولة :
يا أُختَ خَيرِ أَخٍ يا بِنتَ خَيرِ أَبٍ * كِنايَةً بِهِما عَن أَشرَفِ النَسَبِ
أُجِلُّ قَدرَكِ أَن تُسمى مُؤَبَّنَةً * وَمَن يَصِفكِ فَقَد سَمّاكِ لِلعَرَبِ
لا يَملِكُ الطَرِبُ المَحزونُ مَنطِقَهُ * وَدَمعَهُ وَهُما في قَبضَةِ الطَرَبِ
غَدَرتَ يا مَوتُ كَم أَفنَيتَ مِن عَدَدِ * بِمَن أَصَبتَ وَكَم أَسكَتَّ مِن لَجَبِ
وَكَم صَحِبتَ أَخاها في مُنازَلَةٍ * وَكَم سَأَلتَ فَلَم يَبخَل وَلَم تَخِبِ
طَوى الجَزيرَةَ حَتّى جاءَني خَبَرٌ * فَزِعتُ فيهِ بِآمالي إِلى الكَذِبِ
حَتّى إِذا لَم يَدَع لي صِدقُهُ أَمَلاً * شَرِقتُ بِالدَمعِ حَتّى كادَ يَشرَقُ بي
تَعَثَّرَت بِهِ في الأَفواهِ أَلسُنُها * وَالبُردُ في الطُرقِ وَالأَقلامُ في الكُتُبِ
اقرأ أيضا : من روائع شعر المتنبي في الرثاء
تنوع اغراض شعر المتنبي : الوصف
أبدع المتنبي في جانب الوصف ، وإن كان ميله لجانب وصف النفوس والمظاهر الاجتماعية أكثر منها وصف الطبيعة والكون ، فترك لنا لوحات خالدة وبارعة في الجمال .
قال يصف أسدا :
يطأ الثرى مترفقا من تيهه * فكأنه آس يجس عليلا
ويردّ عفرته إلى يأفوخه * حتى تصير لرأسه إكليلا
وقال يصف لنا هول المعارك والحروب :
أتوك يجرون الحديد كأنما * سروا بجياد ما لهن قوائم
إذا برقوا لم تعرف البيض منهم * ثيابهم من مثلها والعمائم
تنوع اغراض شعر المتنبي : الغزل
طبيعة أبي الطيب المعتز بنفسه جعلت لون الغزل في أشعاره لا يخلو من عاطفة وجدانية ذات معاني وحكم ، وقد حاول أن يأتي بأفضل ما في جعبته ليتفوق على شعر من سبقوه ، حتى أنه كان يصل أحيانا لدرجة الغلو والمبالغة خصوصا في مطلع قصائده :
قال المتنبي :
تَشتَكي ما اشتكَيتُ مِن ألمِ الشّوْ * قِ إلَيها وَالشّوْقُ حَيثُ النُّحولُ
وَإذا خامَرَ الهَوَى قَلبَ صَبٍّ * فَعَلَيْهِ لِكُلّ عَينٍ دَلِيلُ
زَوِّدينَا من حُسنِ وَجْهِكِ ما دا * مَ فَحُسنُ الوُجوهِ حَالٌ تحُولُ
وَصِلِينَا نَصِلْكِ في هَذِهِ الدّنـ * يَا فإنّ المُقَامَ فيها قَليلُ
ويقول في قصيدة أخرى :
تنوع اغراض شعر المتنبي : الهجاء
لم يكن الهجاء فنا يرغب فيه المتنبي بقدر ما هو وسيلة يلجأ إليها في أوقات خاصة تقتضي شكوى وسخطا وتذمرا ، إذ كان يرى مكانته كشاعر يناشد العلياء لا تسمح له بأن يميل إلى هذا النوع من الشعر .
لكنه حينما كان يضطر إليه فكان يوجه سهاما قاتلة لمن طالهم هجاءه فلا تقوم لهم قائمة بعد ذلك ، وفي ذلك يقول الأديب المؤرخ حنا الفاخوري :
– ‘ ...فهجاء المتنبي اذن انتقام لكرامته ، واثئار من زمانه ، واشمئزاز من الدناءات ، واحتقار للؤم ، واستصغار للناس . لقد سخط كثيرا وأصبح صدره كبركان يثور ، إن هاجه أحد عربد وقذف حممه . ‘
قال يهجو كافور الإخشيدي :
ما كنتُ أحسبني أحيا إلى زمن * يسيء بي فيه عبد وهو محمود
جوعان يأكل من زادي ويمسكني * لكي يقال : عظيم القدر مقصود
أولى اللئام كُويفير بمعذرة * في كل لؤم وبعض العذر تفنيد
تنوع اغراض شعر المتنبي : الفخر
يبدو أن الفخر يجري في كيان وشخصية المتنبي مجرى الدم في العروق ، ولا عجب ! فهو الشخصية الشامخة بأنفتها وكبريائها ، الطموحة دائما إلى العلو والرفعة ، لذا كان الفخر يغلب على جل قصائده إن لم يكن كلها .
قال مفتخرا في أبيات خالدة :
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا * بأنني خير من تسعى به قدم
الخيل والليل والبيداء تعرفني * والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وقال أيضا :
كأني دحوت الأرض من خبرتي بها * كأني بنى الاسكندر السد من غرمي
اقرأ أيضا : أجمل أبيات المتنبي في عزة النفس
أبو الطيب المتنبي شاعر الحكمة
إذا كان المتنبي بارعا في الفخر ، متفننا في المدح ، حاد اللسان في الهجاء ، رقيق القلب في الرثاء ، فإنه في الحكمة هو السيد الفيلسوف الذي تعلم من الحياة ، فسطر أبياتا كتبت له الخلود والتربع على عرش شعراء الحكمة .
قال المتنبي في سنّة الحياة :
إنما أنفس الأنيس سباع * يتفارسن جهرة واغتيالا
من أطاق التماس شيء غلابا * واغتصابا لم يلتمسه سؤالا
وقال أيضا :
يدفن بعضنا بعضا وتمشي * أواخرنا على هام الأوالي
أما نظرة المتنبي للناس في زمانه فيقول عنهم في هذه الأبيات :
أذمّ إلى هذا الزمان أُهيلهُ * فأعلمهم فدم وأحزمهم وغد
وأكرمهم كلب وأبصرهم عمٍ * وأسهدهم فهد وأشجعهم قرد
ويقول طالبا المجد في أجمل صوره :
إذا غامرت في شرف مروم * فلا تقنع بما دون النجوم
شخصية المتنبي من خلال شعره
تشكلت شخصية المتنبي وعرفت تحولات مهمة وذلك خلال أربعة مراحل من حياته :
1 – أبو الطيب المتنبي ومرحلة الفتوة
وهي مرحلة ما قبل اتصاله بسيف الدولة ، حيث كانت دماء الفتوة والطيش والشباب تفوح من كيان شاعرنا الطموح ، فكان شعره ترجمانا لهواجس نفسه الطموحة المغرورة التي اندفعت ثائرة بكا قوة ، باحثة عن مكان بين العظماء .
وفي ذلك يقول :
ردي حياض الردى يا نفس واتركي * حياض خوف الردى للشاء والنعم
2 – أبو الطيب المتنبي عند سيف الدولة
في أركان بلاط سيف الدولة انبرى المتنبي في نعم الأمير ظافرا غانما ، وقد بلغ من العمر آنذاك الرابعة والثلاثين ، فكان ذا تجربة ورزانة ، ذاق فيها كيد الحساد ، ومحاولاتهم النيل منه ، فكانت شخصيته الشعرية تتفرق بين قلب فرح بالنعمة ، وبين قلب مكسور من كيد الحساد الذين دفعوه إلى الرحيل .
وها هو يقول في إحدى القصائد الخالدة :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي * وأسمعت كلماتي من به صمم
3 –أبو الطيب المتنبي في مصر
يبدو أن تجربة الشاعر في مصر لم ترقى أبدا لمطامعه وتطلعاته ، فلم تنجح محاولاته التكسبية في المدح سواء للأمير كافور أو غيره من وجهاء مصر في نيل بغيته ومراده ، فتجرع الحسرات والأحزان ، وتكونت له شخصية ساخطة اتخذت من لسان الهجاء سلاحا فتاكا .
وله في هذه الفترة بيتا شهيرا يترجم تجربته بمصر ، فيقول :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه * تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
4 – أبو الطيب المتنبي في فارس والعراق
كانت آخر المحطات التي كونت شخصية المتنبي ، وفيها وصل شاعرنا إلى درجة من التعب والإنكسار ، وانطفاء لتلك الشعلة الثائرة ، وقد لجأ الشاعر في هذه المرحلة لضروب من الحكم ووصف الطبيعة ، وكأنه اختار أن يتقاعد ويريح نفسه المحملة بالأثقال وخيبات الأمل .
يقول ذاكرا الأشجار :
وألقى الشرق منها في ثيابي * دنانيرا تفر من البنان
لها ثمر تشير إليك منه * بأشربة وقفن بلا أوان
وأمواه تصل بها حصاها * صليل الحلي في أيدي الغواني
روائع شعر المتنبي ( 1 )
اخترنا لكم باقة متنوعة من اجمل قصائد المتنبي :
من قصيدة وا حر قلباه :
واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ * وَمَن بِجِسمي وَحالي عنده سَقَمُ
مالي أُكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي * وَتَدَّعي حُبَّ سَيفِ الدَولَةِ الأُمَمُ
إِن كانَ يَجمَعُنا حُبٌّ لِغُرَّتِهِ * فَلَيتَ أَنّا بِقَدرِ الحُبِّ نَقتَسِمُ
قَد زُرتُهُ وَسُيوفُ الهِندِ مُغمَدَة * وَقَد نَظَرتُ إِلَيهِ وَالسُيوفُ دَمُ
فَكانَ أَحسَنَ خَلقِ اللَهِ كُلِّهِمِ * وَكانَ أَحسَنَ مافي الأَحسَنِ الشِيَمُ
يا أَعدَلَ الناسِ إِلّا في مُعامَلَتي * فيكَ الخِصامُ وَأَنتَ الخَصمُ وَالحَكَمُ
أُعيذُها نَظَراتٍ مِنكَ صادِقَةً * أَن تَحسَبَ الشَحمَ فيمَن شَحمُهُ وَرَمُ
وَما اِنتِفاعُ أَخي الدُنيا بِناظِرِهِ * إِذا اِستَوَت عِندَهُ الأَنوارُ وَالظُلَمُ
أَنا الَّذي نَظَرَ الأَعمى إِلى أَدَبي * وَأَسمَعَت كَلِماتي مَن بِهِ صَمَمُ
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها * وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ
وَجاهِلٍ مَدَّهُ في جَهلِهِ ضَحِكي * حَتّى أَتَتهُ يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ
إِذا نَظَرتَ نُيوبَ اللَيثِ بارِزَةً * فَلا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَيثَ مُبتَسِمُ
وَمُرهَفٍ سِرتُ بَينَ الجَحفَلَينِ بِهِ * حَتّى ضَرَبتُ وَمَوجُ المَوتِ يَلتَطِمُ
فَالخَيلُ وَاللَيلُ وَالبَيداءُ تَعرِفُني * وَالسَيفُ وَالرُمحُ وَالقِرطاسُ وَالقَلَمُ
صَحِبتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ مُنفَرِداً * حَتّى تَعَجَّبَ مِنّي القورُ وَالأَكَمُ
من قصيدة على قدر أهل العزم :
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ * وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها * وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ
يُكَلِّفُ سَيفُ الدَولَةِ الجَيشَ هَمَّهُ * وَقَد عَجَزَت عَنهُ الجُيوشُ الخَضارِمُ
وَيَطلِبُ عِندَ الناسِ ما عِندَ نَفسِهِ * وَذَلِكَ مالا تَدَّعيهِ الضَراغِمُ
يُفَدّي أَتَمُّ الطَيرِ عُمراً سِلاحُهُ * نُسورُ المَلا أَحداثُها وَالقَشاعِمُ
وَما ضَرَّها خَلقٌ بِغَيرِ مَخالِبٍ * وَقَد خُلِقَت أَسيافُهُ وَالقَوائِمُ
هَلِ الحَدَثُ الحَمراءُ تَعرِفُ لَونَها * وَتَعلَمُ أَيُّ الساقِيَينِ الغَمائِمُ
سَقَتها الغَمامُ الغُرُّ قَبلَ نُزولِهِ * فَلَمّا دَنا مِنها سَقَتها الجَماجِمُ
بَناها فَأَعلى وَالقَنا تَقرَعُ القَنا * وَمَوجُ المَنايا حَولَها مُتَلاطِمُ
اقرأ أيضا : شرح قصيدة على قدر أهل العزم للمتنبي
اجمل اشعار المتنبي ( 2 )
من قصيدة على قدر عذل العواذل :
عَذلُ العَواذِلِ حَولَ قَلبِ التائِهِ * وَهَوى الأَحِبَّةِ مِنهُ في سَودائِهِ
يَشكو المَلامُ إِلى اللَوائِمِ حَرَّهُ * وَيَصُدُّ حينَ يَلُمنَ عَن بُرَحائِهِ
وَبِمُهجَتي يا عاذِلي المَلِكُ الَّذي * أَسخَطتُ كُلَّ الناسِ في إِرضائِهِ
إِن كانَ قَد مَلَكَ القُلوبَ فَإِنَّهُ * مَلَكَ الزَمانَ بِأَرضِهِ وَسَمائِهِ
الشَمسُ مِن حُسّادِهِ وَالنَصرُ مِن * قُرَنائِهِ وَالسَيفُ مِن أَسمائِهِ
أَينَ الثَلاثَةُ مِن ثَلاثِ خِلالِهِ * مِن حُسنِهِ وَإِبائِهِ وَمَضائِهِ
مَضَتِ الدُهورُ وَما أَتَينَ بِمِثلِهِ * وَلَقَد أَتى فَعَجَزنَ عَن نُظَرائِهِ
من قصيدة بأية حال عدت يا عيد :
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ * بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ * فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ
لَولا العُلى لَم تَجُب بي ما أَجوبُ بِها * وَجناءُ حَرفٌ وَلا جَرداءُ قَيدودُ
وَكانَ أَطيَبَ مِن سَيفي مُضاجَعَةً * أَشباهُ رَونَقِهِ الغيدُ الأَماليدُ
لَم يَترُكِ الدهر مِن قَلبي وَلا كَبِدي * شيئا تُتَيِّمُهُ عَينٌ وَلا جيدُ
يا ساقِيَيَّ أَخَمرٌ في كُؤوسِكُما * أَم في كُؤوسِكُما هَمٌّ وَتَسهيدُ
أَصَخرَةٌ أَنا مالي لا تُحَرِّكُني * هَذي المُدامُ وَلا هَذي الأَغاريدُ
أَكُلَّما اِغتالَ عَبدُ السوءِ سَيِّدَهُ * أَو خانَهُ فَلَهُ في مِصرَ تَمهيدُ
صارَ الخَصِيُّ إِمامَ الآبِقينَ بِها * فَالحُرُّ مُستَعبَدٌ وَالعَبدُ مَعبودُ
نامَت نَواطيرُ مِصرٍ عَن ثَعالِبِها * فَقَد بَشِمنَ وَما تَفنى العَناقيدُ
العَبدُ لَيسَ لِحُرٍّ صالِحٍ بِأَخٍ * لَو أَنَّهُ في ثِيابِ الحُرِّ مَولودُ
لا تَشتَرِ العَبدَ إِلّا وَالعَصا مَعَهُ * إِنَّ العَبيدَ لَأَنجاسٌ مَناكيدُ
ما كُنتُ أَحسَبُني أَحيا إِلى زَمَنٍ * يُسيءُ بي فيهِ كَلبٌ وَهوَ مَحمودُ
وَلا تَوَهَّمتُ أَنَّ الناسَ قَد فُقِدوا * وَأَنَّ مِثلَ أَبي البَيضاءِ مَوجودُ
وَأَنَّ ذا الأَسوَدَ المَثقوبَ مِشفَرُهُ * تطيعُهُ ذي العَضاريطُ الرَعاديدُ
جَوعانُ يَأكُلُ مِن زادي وَيُمسِكُني * لِكَي يُقالَ عَظيمُ القَدرِ مَقصود
روائع أشعار المتنبي ( 3 )
من قصيدة كفى بك داء :
كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا * وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا
تَمَنَّيتَها لَمّا تَمَنَّيتَ أَن تَرى * صَديقاً فَأَعيا أَو عَدُوّاً مُداجِيا
إِذا كُنتَ تَرضى أَن تَعيشَ بِذِلَّةٍ * فَلا تَستَعِدَّنَّ الحُسامَ اليَمانِيا
وَلا تَستَطيلَنَّ الرِماحَ لِغارَةٍ * وَلا تَستَجيدَنَّ العِتاقَ المَذاكِيا
فَما يَنفَعُ الأُسدَ الحَياءُ مِنَ الطَوى * وَلا تُتَّقى حَتّى تَكونَ ضَوارِيا
حَبَبتُكَ قَلبي قَبلَ حُبِّكَ مَن نَأى * وَقَد كانَ غَدّاراً فَكُن أَنتَ وافِيا
وَأَعلَمُ أَنَّ البَينَ يُشكيكَ بَعدَهُ * فَلَستَ فُؤادي إِن رَأَيتُكَ شاكِيا
فَإِنَّ دُموعَ العَينِ غُدرٌ بِرَبِّها * إِذا كُنَّ إِثرَ الغادِرينَ جَوارِيا
إِذا الجودُ لَم يُرزَق خَلاصاً مِنَ الأَذى * فَلا الحَمدُ مَكسوباً وَلا المالُ باقِيا
وَلِلنَفسِ أَخلاقٌ تَدُلُّ عَلى الفَتى * أَكانَ سَخاءً ما أَتى أَم تَساخِيا
من قصيدة أرق على أرق المليئة بالحكم والعبر :
أَرَقٌ عَلى أَرَقٍ وَمِثلِيَ يَأرَقُ * وَجَوىً يَزيدُ وَعَبرَةٌ تَتَرَقرَقُ
جُهدُ الصَبابَةِ أَن تَكونَ كَما أَرى * عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وَقَلبٌ يَخفِقُ
ما لاحَ بَرقٌ أَو تَرَنَّمَ طائِرٌ * إِلّا اِنثَنَيتُ وَلي فُؤادٌ شَيِّقُ
جَرَّبتُ مِن نارِ الهَوى ما تَنطَفي * نارُ الغَضى وَتَكِلُّ عَمّا تُحرِقُ
وَعَذَلتُ أَهلَ العِشقِ حَتّى ذُقتُهُ * فَعَجِبتُ كَيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ
وَعَذَرتُهُم وَعَرَفتُ ذَنبِيَ أَنَّني * عَيَّرتُهُم فَلَقيتُ فيهِ ما لَقوا
أَبَني أَبينا نَحنُ أَهلُ مَنازِلٍ * أَبَداً غُرابُ البَينِ فيها يَنعَقُ
نَبكي عَلى الدُنيا وَما مِن مَعشَرٍ * جَمَعَتهُمُ الدُنيا فَلَم يَتَفَرَّقوا
أَينَ الأَكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى * كَنَزوا الكُنوزَ فَما بَقينَ وَلا بَقوا
مِن كُلِّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بِجَيشِهِ * حَتّى ثَوى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيِّقُ
خُرسٌ إِذا نودوا كَأَن لَم يَعلَموا * أَنَّ الكَلامَ لَهُم حَلالٌ مُطلَقُ
وَالمَوتُ آتٍ وَالنُفوسُ نَفائِسٌ * وَالمُستَغِرُّ بِما لَدَيهِ الأَحمَقُ
وَالمَرءُ يَأمُلُ وَالحَياةُ شَهِيَّةٌ * وَالشَيبُ أَوقَرُ وَالشَبيبَةُ أَنزَقُ
افضل قصائد ابو الطيب المتنبي ( 4 )
من قصيدة بم التعلل لا أهل ولا وطن :
بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ * وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني * ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ * مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
فَما يَدومُ سُرورُ ما سُرِرتَ بِهِ * وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ
مِمّا أَضَرَّ بِأَهلِ العِشقِ أَنَّهُمُ * هَوُوا وَما عَرَفوا الدُنيا وَما فَطِنوا
تَفنى عُيونُهُمُ دَمعاً وَأَنفُسُهُم * في إِثرِ كُلِّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ
تَحَمَّلوا حَمَلَتكُم كُلُّ ناجِيَةٍ * فَكُلُّ بَينٍ عَلَيَّ اليَومَ مُؤتَمَنُ
ما في هَوادِجِكُم مِن مُهجَتي عِوَضٌ * إِن مُتُّ شَوقاً وَلا فيها لَها ثَمَنُ
يا مَن نُعيتُ عَلى بُعدٍ بِمَجلِسِهِ * كُلٌّ بِما زَعَمَ الناعونَ مُرتَهَنُ
كَم قَد قُتِلتُ وَكَم قَد مُتُّ عِندَكُمُ * ثُمَّ اِنتَفَضتُ فَزالَ القَبرُ وَالكَفَنُ
قَد كانَ شاهَدَ دَفني قَبلَ قَولِهِمِ * جَماعَةٌ ثُمَّ ماتوا قَبلَ مَن دَفَنوا
ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ * تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ
خاتمة بحث عن أبي الطيب المتنبي
ذلك هو الشاعر الذي شغل الدنيا والناس ، الشاعر الذي صارت أبياته مضرب الأمثال في الحكم والمعاني العميقة ، لما تتضمنه من مرونة وجمال مرصع بجواهر من اللغة والبيان .
ولقد حاولنا أن نختصر قدر الإمكان في هذا البحث المتواضع ، حتى لا نشعر القارئ العزيز بالملل وطول الفقرات .
مصادر :
– المتنبي ( محمود محمد شاكر ) .
– تاريخ الأدب العربي ( حنا الفاخوري ) .
– الصبح المنبي عن حيثية المتنبي ( مصطفى السقا ، محمد شتا ، عبده زيادة عبده ) .