إن تغريد الطيور يدخل على نفوس الناس كثيرا من الغبطة ، ويفرج عن صدور البؤساء منهم ، فهل تدرك الطيور ذلك ؟
نجد في القصة التالية نموذجا لطيفا لطائرين يتكلمان ويتناقشان حول مفهوم الحرية ، ويعتزان بالخدمة التي يؤديانها للناس .
المنظر : كوخ قد شابت أخشابه وتشققت ، يلاصق صفا من أكواخ تماثله في حي بائس من أحياء العمال في إحدى العواصم العربية ، وشمس ربيعية مشرقة تغمر الكوخ ، وتتدفق إليه من نافذة علّق بمسمار فيها قفص أقفل على حسون ، ولكن الحسون يغرد مجتهدا بحنجرة فضية ، ويلمع ريشه في بهاء الضوء .
ويقبل حسون آخر طليق في الفضاء فيجثم على حافة سطح الكوخ فوق قفص الحسون الحبيس .
الحسون الطليق :
ماذا ؟ أتكون أنت هنا ؟ لقد قلت في نفسي إنني أعرف هذا الصوت ثم صدق ظني ، فما الذي أوقعك في هذا الحبس ، وعلقك في هذا الحي الموحش بين هذه الأكواخ البالية ؟ مسكين أنت يا أخي ، مسكين ؟ أين أنت من حب السنبل والثمار الحلوة ، وديدان الأرض تنقرها ؟ أين أنت من السفوح الخضراء والنسيم العطر ، والزهور تموج بألوانها والسواقي تثرثر بألحانها .
الحسون الحبيس :
( يقطع تغريده وينظر إلى رفيقه على حافة السطح )
حقا يا أخي إن السجن لعسير ، والحياة في الأسر تغم وتحزن . على أني لا أعدم نور الشمس ، كما ترى ، ولا يعوزني غذاء ولا ماء يقدمان لي في مواقيت لا تتخلف ، ثم إني في هذا القفص لا أخشى الهررة ولا الجوارح المفترسة .
الحسون الطليق :
على أن هذا كله أتفه من أن يغني عن الحرية ، وأي شيء يغني عن الحرية ؟
الحسون الحبيس :
صدقت ، لكن في الحياة حرية أخرى غير حريتي وحدي . لو وقفتَ على هذه النافذة فنظرتَ في داخل هذا الكوخ لرأيت فتى مشدودا إلى سرير قد حطمت ساقه ! ولو طرتَ إلى نافذة الكوخ الآخر ، لرأيت فتاة كسرت في ظهرها فقرة فهي ملقاة لا تستطيع حراكا .
ثم لو انتقلت إلى الكوخ الثالث لرأيت امرأة لابسة السواد تتأمل خلال غشاء من الدموع صورة رجل مات قتلا . وكل هذا في سبيل الحرية . هؤلاء قوم أتاهم دخلاء مستعمرون ، أطلقوا عليهم الرصاص لأنهم طلبوا حرية ، أرادوا وطنا يأكلون فيه لقمة الخبز ، فيعيشون في سعادة وهناء .
الحسون الطليق :
لا أرى كيف يبهجك ذلك ، وكيف يعوضك عن حريتك ؟
الحسون الحبيس :
ألا ترى أنني أشرح صدور هؤلاء بنشيدي ؟ أفتح قلوبهم للحبور والغبطة ، أذكّرهم بالحياة وبالسعادة وبالنصر ، فلا تقل بعد اليوم إني مسكين .
الحسون الطليق :
حقا يا أخي ، لستَ في حاجة إلى الشفقة ، ما دمت قد عرفتَ حرية أسمى ، فقيدتَ نفسك في سبيل غيرك وسعدتَ تلك السعادة ، فأذن لي أن أرافقك في النشيد .
وهنا ارتفع في داخل الكوخ صوت الفتى المحطم الساق فنادى أخته : أمينة ، أمينة ، انظري ما بال الحسون قد سكت عن التغريد ، لا أريده أن يسكت ، إن نشيده في سمعي نشيد الحياة والأمل والنصر .
ولكن ما لبث أن انطلق بالتغريد هذه المرة حسونان لا حسون واحد ، فقال الفتى :
– ها إن نشيد الحياة والنصر يتعاظم .
مصادر :
– القصة للأديب اللبناني رئيف خوري .